حاتم بوكسره
“هنا تونس” حيث تتلاطم الأجساد وتقذف الكلام دون نشوة ليلا، وتغصّ بخنقة العجز نهارا، تستعيد صور شبقيّة الهزيمة ووهَـن الإرادة وتشوّه المعنى فـ”ويل للممثلين” الذين تتعرّق حروفهم المسترسلة جرّاء إيقاع الواقع المتعثّر، وتواري “بذاءتهم” أحلامنا كي تكشف لنا بلادة “أخلاقنا” وزيف “نمطنا” وقبح “اعتدالنا”.
استرسال التقطّعات المشهديّة في “ثلاثين وانا حاير فيك” لتوفيق الجبالي التي اختارتها الهيئة المديرة للمهرجان الدولي للحمامات كي تفتح الدورة 53 من هذا المهرجان، لم تترك الجمهور الحاضر، أو بعضه على الأقل، “متفرجا” مطمئنا بفهمه ومستكينا إلى إدراكه كلّ مقاصد “الجبالي”.
الجمل البليغة مثلها مثل المسامير الحادّة، تفرض الحقيقة على ذاكرتنا:
يقول فيلسوف الأنوار “دينيس ديدرو” إنّ “الجمل البليغة مثلها مثل المسامير الحادة، تفرض الحقيقة على ذاكرتنا” وكذلك كانت السخرية “المعتادة” للجبالي والتي استعرضتها كلّ مشاهد العمل الذي قدّمه بواسطة تلاميذ “التياترو ستوديو”.
“ثلاثين وأنا حاير فيك” يتواتر فيها “اللعب” ومسرحة العبث اليومي كي تتجاوز التقنية المسرحية للرجوع إلى شيء أعمق وأكثر بدائية منها وهو كل ما يتعلق بشكل إدراكنا للعالم ولواقعنا في تونس بالتحديد عبر اعتماد نص مترابط في بعض الأحيان ومتفكّك في أحيان أخرى مع إكساء هذه الأخيرة صفات مسرحية تعود فعاليتها إلى مقوّمات “مشهديّة” خاصة ذات تعبير أكثر من “أدبية” النص.
ويجمع العمل في أغلبه العديد من المحطات المسرحية “للجبالي” ومسرح “التياترو” الممتدة على “ثلاثين سنة من الحيرة” بين “هنا تونس” و”الخلوة” و”كلام الليل” و”كلام الليل صفر فاصل” و”عشق آباد” وأعمال أخرى لم أواكبها بحكم الزمن، وذلك عبر “مونتاج” للمشاهد المنفصلة في سياقها و”ميكساج” للمؤثرات الضوئية والصوتية مع لعب الممثلين وتوزّعهم فوق ركح مسرح الهواء الطلق بالحمامات الفريد من نوعه.
بين التّفكيك والتّجميع يضيع الممثّل
هذا الركح الذي توزّعت مداخله ومخارجه، جعل الأمر صعبا على “الجبالي” في توزيعه لطاقات ممثّليه وعلى حسن توزيعهم على الركح. إذ أنّ اختيار بعض “الزوايا الميّتة” (angles mortes) في تموقع الممثل يصّعب على الجمهور مشاهدتها من كلّ الزوايا كما أنّ هرولة الممثلين عند التنقّل من موقع إلى آخر جرّاء عدم التوزيع الجيّد قد أفقدهم تركيزهم في لعب شخصياتهم في بعض الأحيان.
العمل يستدعي التّريّث في التحليل نظرا إلى تقنية “القص واللصق” (couper-coller) المعتمدة على تجميع كلّ ما هو مفكّك من أجل “تفكيك المفكك”، كما عبر عن ذلك الباحث “حاتم التليلي”، ومن ثمّ إعادة تفكيكه بواسطة ممثلين يحاولون التعبير عن شعور لا يحسّه “الجبالي” إطلاقا.
فالاعتماد على شخوص من أجل الإيهام بحالة ما، ليس بعسير على “توفيق الجبالي” الذي لم يحتر من الحيرة التي تسود العامة. لكنّ ممثّليه في أغلبهم بدوا محتارين وغير مسكونين بهواجسه، كما بدا “الجبالي” مغتاضا من “الخاصة” وأعني هنا “المحترفين” و”المهنيّين” الذين يعارضونه في مسألة التكوين والتوزيع التي لا يراها حكرا على “حاملي بطاقات الاحتراف” دون غيرهم.
ولم يول مخرج العمل ممثّليه العناية اللاّزمة في التمارين، الشيء الذي بدا جليّا من خلال استفحال “le cabotinage” أو التظاهر بالتماهي في الكثير من الوضعيات، إذ أضاع العديد من الممثّلين حبك مشاهدهم وبقوا متروكين لقدرهم فوق الركح كما بقوا حمّالين لنصوص دون هاجس.
كما أنّ عدد الممثلين الضخم في العرض لم يشفع للفريق المشرف (المخرج ومساعديه الإثنين) الأخطاء المرتكبة التي تُحيل على التساؤل حول جدوى “تكبير” العدد من أجل المشاركة لغاية الحضور فقط. وإن كان المخرج قد قدّم سنة 2009 على نفس الركح عرض “مانيفستو السرور” تكريما لذكرى علي الدوعاجي والذي كان موحّدا في سياقه ومنسجما في آن واحد. إلاّ أنّ “ثلاثين وأنا حاير فيك” الذي كان تجميعا لعديد المحطات كان مشتّتا في جماليّته وهو الشيء الذي يحيل إلى عدم التوفيق في اختيار بعض النصوص ومسرحتها.
“توفيق الجبالي” حاول تغليف الهنات الموجودة في “لعب الممثل” وفي “المزامنة” (synchronisation) عبر الإيقاع المعتمد في العرض وعبر مواءمة بعض النصوص الصعبة لمتطلبات العمل المسرحي اعتمادا على قلب الوضعيات بين المنطوق والفعل مع اعتماد النقد اللاّذع المغلّف بالسخرية وخلق سوء الفهم المقصود والمبني على الإدراك باللغة وفخاخها “le quiproquo” من أجل إعادة تركيب المعاني مع ترتيب تفاعل أجساد الممثلين بالتزامن مع تواتر المشاهد كي يعرض أوضاعا لم تعد تبحث عن وحدة المكونات الجمالية الكلاسيكية بل هي تأخذ شكلها وطبيعتها من التشذّر ومن كل ما هو متجزّئ.
ثلاثين وأنا حاير فيك: من وهم الأمل إلى حقيقة الإحباط
“ثلاثين وانا حاير فيك” هي محاولة من “الجبالي” لاستنطاق ذاكرته حول ثلاثين سنة مرّت من عمر “مسرح التياترو الذي تأسّس سنة 1987 كأوّل الفضاءات المسرحية المستقلة في تونس، وحاول فيها رفقة مساعديه “نوفل عزارة” و”وليد عيادي” استحضار “القديم المتجدّد” حول حال البلاد، عبر 117 تلميذة وتلميذا من “التياترو ستوديو” مع تفاوت مستوى حضورهم الركحي ومستوى استعدادهم، لكن نشوتهم بالتواجد على ركح الحمامات كانت بادية للأعين وانتقلت إلى الجمهور الحاضر ليلة السبت 15 جويلية في افتتاح الدورة 53 لمهرجان الحمامات الدولي.
سهرة انتقلت فيها المشاهد من السخرية من وهم “اعتدال” المواطن التونسي إلى حقيقة “سكيزوفرنيّته” ومن الحديث عن خيبات الانتظار إلى الانتصارات الوهمية ومن الأمل الواهي إلى الإحباط القاسي. سهرة قدّم فيها “الجبالي” كالعادة شظايا أفكار وشتات معان حول بلد محيّر حدّ الاختناق، بلد محيّر حدّ العجز والشلل، محيّر حتى الموت.
عمل صبّ فيه الممثلون والممثلات وابل طاقتهم على الساسة والسياسة والديمقراطية والديمقراطيين وعلى المعتدلين والمتطرفين. عمل يلقي بكلّ الصراعات على قارعة الفرجة، ويفتح الباب للتأويل ويلغي الاطمئنان ويبعث الشك.
عمل يحمل التناقض والحيرة حول الواقع ولكنه أيضا يحمل حيرة المبدع حول تجربته، وهو عمل المُحتار إلى المُحتار.
عمل حول بلد سبق وأن وصفته جليلة بكار في نص مسرحية خمسون “بلاد الخير والخمير، والسفرة الدايمة، كسكي، بريك، وتاي بالبندق يا بُـنْـبـُك، بلاد الفرح الدائم، بلاد الصدق في القول والإخلاص في العمل، بلاد الجدّ، والجود والكرم، والهندي والكرموص، بلاد الاعتدال والاستقرار، بلاد الفم الحارك… والقلب النابض”.