بقلم علي البعزاوي
رحلت الترويكا عن الحكم مخلفة أزمة شاملة وعميقة تتخبط فيها البلاد، أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية وثقافية وبيئية. رحلت بعد ان خلقت مناخا من العنف والإرهاب والتهميش والفقر الذي ارتفعت مستوياته إلى معدلات غير مألوفة (24 في المائة من التونسيين يعيشون تحت خط الفقر) وبعد أن ضربت وحدة التونسيين عبر خلق تناقضات وهمية على قاعدة العقيدة، الهدف منها التشويش على التناقضات الحقيقية والانحراف بالصراع عن مساره الأصلي, الصراع بين من يصرون على تحقيق أهداف الثورة، ومن يعملون على الالتفاف عليها، ساعين في ذلك إلى إعادة الاستبداد بأغلفة جديدة بشتى الطرق.
رحلت الترويكا بعد أن فرضت عبر أغلبيتها في التأسيسي ميزانية كارثية رفضها الرباعي الراعي للحوار الوطني، بما في ذلك اتحاد الأعراف إلى جانب أحزاب المعارضة باعتبار ميزانية 2014 هي عنوان اعتداء على عيش واستقرار الفئات المتوسطة والضعيفة. لكن احتجاجات الفلاحين وأصحاب السيارات والشاحنات ضد الاتاوات فرضت على الوزير الأول تعليقها، مثلما فرضت على وزير ماليته وقف تنفيذ برنامج رفع الدعم عن المحروقات. لقد أراد الوزير الأول ووزير المالية المتنحيين حفظ ماء الوجه لحزبيهما من جهة، والتنازل أمام الضغط الشعبي من جهة أخرى، وبهذا أصبحت الميزانية معلقة.
ماذا بقي من ميزانية 2014؟
إن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف ستتعاطى حكومة المهدي جمعة مع هذه الميزانية المعلقة؟ هل ستكتفي بقانون مالية تكميلي وبالتالي ترقيع ما يمكن ترقيعه تجنبا للغضب الشعبي مع الحفاظ على التوجهات الليبرالية المتوحشة لهذه الميزانية؟ أم أنها ستعيد النظر فيها جملة وتفصيلا، صياغة أخرى بديلة في إطار من التوافق الواسع؟
إن تعاطي الحكومة الجديدة مع هذه الميزانية هو أحد أهم معايير الحكم لها أو عليها، أي هل هي حكومة ترويكا 3 ؟ أم حكومة إنقاذ حقيقية منسجمة مع ما ورد في خارطة الطريق؟
إن قبول هذه الميزانية شعبيا يشترط أن تكون خادمة لمطالب التونسيين التي ثاروا من أجلها ضد بن علي، وهذا يتطلب الترفيع في الاعتمادات المخصصة للتنمية التي وقع تخفيضها بنسبة 17 في المائة بالقياس مع ميزانية 2013، وفتح الآفاق أمام المعطلين والمهمشين أبناء الأحياء الشعبية والجهات المنكوبة، وإعادة الاعتبار لهم وطمأنتهم وإشعارهم بأنهم مواطنون مثل باقي التونسيين بعد أن أعلنت ميزانية “الفخفاخ” غلق باب الانتداب في مؤسسات الدولة…لا قيمة لأي مراجعة لهذه الميزانية، لا تأخذ في الحسبان الخدمات الاجتماعية، التربوية والصحية والتدهور الكبير للقدرة الشرائية الذي خلّفته الزيادات المتتالية في الأسعار خلال فترة حكم الترويكا 1و2. عديدة هي الأبواب الواجب مراجعتها في هذه الميزانية لكن أهمها السياسة الجبائية وسياسة التداين ومسألة الدعم.
1.السياسة الجبائية : كما هو معروف فإن نسبة 64 في المائة من ميزانية الفخفاخ متأتية من الجباية التي يساهم فيها الأجراء بنسبة تقارب ال80 بالمائة، في حين يخضع كبار الرأسماليين والملاكين والأثرياء عموما لنظام الضريبة التقديرية، و يساهمون بالتالي في تمويل الميزانية بنسبة تقل عن الـ 35 في المائة.هذه السياسة ينبغي أن تُراجَع في اتجاه اكثر عدلا حتى يساهم أصحاب المال والأعمال فيها على قدر المداخيل والأرباح الخيالية التي يجنونها.
2.سياسة التداين : بلغت نسبة التداين الخارجي في عهد الترويكا حدود 50 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، وتحتاج ميزانية 2014 إلى المزيد من القروض الخارجية لسد العجز المقدر بـ 28 بالمائة من اجمالي الميزانية وهو ما يشكل خطرا على استقلال البلاد وارتهان سيادتها للمؤسسات والدول المقرضة، ولعل الاملاءات الأخيرة لصندوق النقد الدولي أكبر دليل على ما نقول.
والحل هو بالتأكيد في التعويل أكثر على الموارد الذاتية باستخلاص مستحقات الدولة لدى المؤسسات والخواص التي تضاهي الــ 15000 مليار(ما يعادل أكثر من نصف ميزانية الدولة) وتعليق خلاص الديون الخارجية لفترة زمنية محددة وفتح اكتتاب رقاعي وطني لإنعاش الخزينة العامة للدولة واسترجاع الأموال المهربة من الخارج التي يمكن أن توفر أكثر من 9000 مليار.
3.الغاء الدعم : من المعلوم أن إلغاء الدعم عن المحروقات هو إجراء مملى من الدوائر المالية الخارجية وتطبيقه ولو تدريجيا من شأنه ان يساهم في تحرير الأسعار وإثقال القدرة الشرائية للمواطن. وحكومة “المهدي جمعة” مطالبة بالبحث عن موارد بعيد عن رفع الدعم الذي يضر في صورة تطبيقه بالفئات الضعيفة والمتوسطة، مثل فرض ضرائب استثنائية على الثروات الكبرى وفرض سياسة تقشف على المصاريف العمومية ووضع حد لتبديد المال العام (إعادة النظر في أسطول السيارات الإدارية و”بونوات” المحروقات التي تقدم بسخاء ومراجعة المرتبات والامتيازات الخيالية للمسؤولين في الدولة والوظائف المحدثة للأتباع …).
لقد سقطت ميزانية الترويكا سياسيا وشعبيا، والمطروح بعد رحيل الترويكا الفاشلة هو مراجعة هذه الميزانية مراجعة جذرية وليس الاكتفاء بترميمها وإعادة إحيائها. فحكومة الانقاذ تتطلب ميزانية انقاذ لا ميزانية “تقشف”.