لم يكن بعث مراكز الفنون الدرامية والركحية من باب الترف أو تزيين المشهد الثقافي بعناوين جديدة، بقدر ما هو مطلب حيوي عمل المثقفون والمسرحيون بشكل خاص على فرضه لإيمانهم بما للمسرح من قيمة ودور في صقل الذائقة وتهذيب الأفكار والنفوس..
لكن للآسف، على طيلة قرابة العقدين من الزمن مازالت هذه المراكز تعاني أوضاعا ما أنزل الله بها من سلطان، فهي إلى حدود اليوم تستمر دون قانون أساسي ينظّم نشاطها وتدخلها ودورها في الحياة الثقافية والإنتاج الثقافي وتوضيح حدود استقلاليتها من تبعيتها لسلطة الإشراف. هذا علاوة على أن بعض المراكز مازالت مقراتها ليست أكثر من جناح تابع لبعض دور الثقافة وهو ما من شأنه أن يجعلها مرتهنة في مشاريعها وبرامجها إلى هذا الوضع التي هي بدورها لها أنشطتها. وليس أدلّ مثال على ذلك من مركز الفنون الدرامية والركحية بالقيروان الذي يعاني منذ نشأته من ضيق الفضاء وعدم استقلاليته، فمثل هذا المركز الفتي مازال مقرّه جزء مقتطع من المركب الثقافي أسد ابن الفرات، ومازال رغم كثافة أعماله وإنتاجاته – التي سنعود إليها – يرتكن (من باب المراكنة) في قاعة العروض من المركب الثقافي أسد ابن الفرات، أو في جناحه الثقافي، وقد علمنا أن مسألة الأرض المخصصة لبناء مركز فنون درامية مازالت في أخذ ورد بين وزارة الثقافة ووزارة أملاك الدولة .
مركز الفنون الدرامية والركحية بالقيروان والإنتاج المسرحي.
منذ النشأة راهن المركز على الإنتاج المسرحي بما هو الركيزة الأساسية لنشاطه، فكانت وثبة داديارا على الملك إخراج البشير القهواجي، ولامس مسرح الطفل من خلال مسرحية هي تجربة مهمة مع الأستاذة العرائسية حبيبة الجندوبي في عمل “هشوش الحالم” الذي أعاد إنتاجه المركز لتحسينه. كما واصل في باب الإنتاج المسرحي من خلال إعداده مسرحية “الصابرات” إخراج مدير المركز السيد حمادي الوهايبي، هذا العمل الذّي سبق صيته عرضه لجرأته حسب ما وصل من صدى حوله، جرأة الطرح وجرأة الموضوع. إلى جانب استمراره في الاعتناء بمسرح الطّفل من خلال إعداده لعمل مسرحي ضخم “إيليس في بلاد العجائب” للشاعر حافظ محفوظ، وإخراج حسان السلاّمي وهو عمل سيجعل اللبنة التي تأسست في خيار مسرح الطّفل في مركز الفنون الدرامية بالقيروان يتحوّل إلى خيار حقيقي قائم على مدار الدورات الإنتاجية في برنامج المركز. وقد أعلمتنا الإدارة أنها توجّهت بمقترح لمندوبيات الثقافة بكل من سيدي بوزيد والقصرين وسوسة قصد إنتاج أعمال مشتركة يساهم فها خريجو معاهد المسرح وحاملو بطاقة الاحتراف.
مركز الفنون الدرامية والركحية بالقيروان والمختبرات
لم يكن إنتاج الأعمال المسرحية المتكاملة والمحترفة هو العمود الفقري الأوحد لمركز الفنون الدرامية والركحية بالقيروان، بل عمل على بعث مختبرات مسرحية تأخذ بيد الناشئة وتنمي ملكاتهم الإبداعية في عالم المسرح الذّي ينقذ العديد منهم من الارتباك النفسي والاجتماعي ويأخذهم إلى عوالم الفعل والإبداع، حتى لا تأخذهم متاهة الإرهاب والمخدرات والتهميش الثقافي.. وذلك تحت إشراف نخبة من الأساتذة وخرّيجي المعاهد العليا للمسرح بتونس والكاف، وتم تأثيث عرض نتائج تلك المختبرات، مع كل من الأستاذ محمد السايحي والأستاذة أسماء ثابت والأستاذ نبيل الشاهد والأستاذة وهيبة العيدي. وهو الآن بصدد بعث تجربة جديدة وذلك عبر مختبرات لخريجي المعاهد العليا للمسرح والممثلين المحترفين، مختبر يمتد لشهرين يكون فيه العمل جماعي (هذا المبدأ الذي غاب في الأعمال المسرحية) يتشارك المنخرطون فيه في الإخراج والدراماتورجيا والتمثيل.. وهي تجربة تؤسس لاكتساب تجربة عملية وميدانية مهمة للخرّيجين اللذين تشبعوا بالنظرية حتى يثروا زادهم خاصة وأن بعضهم لم يشارك سوى في مشروع تخرّجه أو عمل واحد في الاحتراف كممثل، هذه التجربة الواعدة هي نواة لتكوين مخرجين وكتاب مسرح وموجهي ممثلين واكتشاف الطاقات وتربية الملكات في هذا الاتجاه.
على الهامش في صلب الموضوع
لم يكن مركز الفنون الدرامية موجودا أثناء تأسيس بعض التظاهرات والمهرجانات بالجهة أمثال مهرجان المنولوج ومهرجان المسرح الحديث ومهرجان ربيع الفنون الدولي بالقيروان إلاّ انه ورغم إمكانياته المادية واللوجستية المتواضعة والضعيفة سعى إلى المساهمة والإثراء والإشراف على بعض التظاهرات لإيمانه أن دوره هو التواجد في مجمل المناسبات الثقافية بالجهة كونه ركيزة أساسية في المشهد الثقافي القيرواني..
نلفت انتباه المركز أن يواصل في برمجة وإعداد الندوات الفكرية والنظرية التي تتناول عوالم الفعل المسرحي في الموسم الثقافي القادم، وحتى لا يبقى كتاب الينابيع الأول الذي أصدره المركز هو الكتاب الأخير.. كتاب الينابيع هذا المشروع الذي إنبنى في أفق التأسيس للجانب النظري الذي يعدّ رافعا ومطوّرا للفعل المسرحي الركحي.. كما أنّه أكثر خلودا وانتشارا من الأعمال المسرحية.
كما نطالب بكل شدّة وبكل الإلحاح من وزارة الثقافة النظر في بعث مركز للفنون الدرامية والركحية بحجم طموحات أبناء وأهالي القيروان ومثقفيها ويليق بدور هذا المركز الذّي رغم صغره فهو كالنهر يثقب صخر الصمت رويدا.
وهيبة العيدي
متحصلة على الإجازة في المسرح وفنون العرض
المعهد العالي للموسيقى والمسرح بالكاف