“قولاب Fevrier 53 ” عنوان العمل الذي أنتجته جمعية عبور للمسرح بالرقاب من ولاية سيدي بوزيد، النص والإخراج للأستاذ علي عامري، أداء: حسام زريبي، عبد القادر جلالي، أنيس عكرمي، عبد الرحمان كدوسي، سامح طقوقي و بدر الدين لعبيدي،
ما يلاحظ أن العنوان تركب من الإطارين المكاني والزماني ليحيلنا إلى الجبل المشرف على منطقة الرقاب والذي يعلوه مقام لولي صالح “زاوية”، هذا الجبل احتضن المتصوفة قبل أن يكون مسرحا لأشد المعارك ضراوة ودموية ضد المستعمر الفرنسي، شخصيات المسرحية تصعد الجبل وتلجأ إلى الزاوية ذات يوم من فيفري 53، وذلك اثر مداهمة قوات الاحتلال الفرنسي للقرية.
رغم هذا “الاهتمام الكبير والشامل من أجل ألا يكون هناك أيّ شيء جديد فعلا، وهذا الاهتمام يسود كل تلك الأوساط من الناس الذين يشعرون بارتياح عندما يجدون أنفسهم بين النظم أو التقاليد القديمة”، انطلق هؤلاء الشباب في البحث لخلق شيء جديد، في مناخ يخيم فيه القحط والتصحر على المشهد الثقافي وفي بيئة مهمشة تنتج نسبا عالية من اليأس عند الشباب، رهان اجتماعي يطرح بشكل أو بآخر نوعا من الصلابة والمقاومة عوضا عن الاستسلام، ففي زمن ما قبل العرض يلاحظ ان هؤلاء المواطنين قد شدوا الانتباه لهم، تنطلق التساؤلات في المقاهي بين المهتمين واللامبالين عن نوعية العمل وما يمكن أن يحمله من أفكار وهل سيكون له أفق أصلا.
كان التوجه نحو النبش في التاريخ المحلي المرتبط بأحداث وطنية، مساءلة تخوضها مجموعة عبور للمسرح، تلامس فيها ثوابتا راسخة بين المدون والمنقول شفويا، هذا البحث كان له الأثر الأكبر عند المتقبل الذي وجد نفسه أمام عمل مسرحي يمثله، يتناول تاريخه ويقدم له بلهجته التي تم الاشتغال كثيرا على رصد مواقع الجمال فيها، لتتكون منها شعرية هي بمثابة النفس المميز لهذا العمل، من خلال هذه الشعرية يطل علينا مرزوق الشاعر، العجوز خضرة، شيخ الزاوية، سلطان السارح، مصباح المعلم والصادق العساس.
العمل لا يقدم لنا وثيقة تاريخية واضحة المعالم بقدر ما يضع التاريخ كإطار عام لمقاربة جمالية تتقاطع فيها رؤى جدلية عدة، إن طرح بداية تشكل الوعي السياسي والنقابي في تلك الفترة -التي يخيم فيها الجهل على أهالي المنطقة والبلاد ككل ويسلط فيها الاستعمار أذياله على المقاومين بالفكر خاصة- يعتبر في حد ذاته رهانا قديما/حديثا، إن الفضاء الدرامي الذي تتواجد فيه الشخصيات “زاوية في أعلى جبل قولاب” غير بعيدة عما يخوضه المقاومون من صراع ضد المستعمر يعتبر مناخا ملائما لطرح السياسي والاجتماعي، تحت نوع من الرقابة التي يمارسها “الصادق العساس” على الجميع وخاصة على “مصباح المعلم”، وفي جو تطغى عليه الميتافيزيقا يتبين لنا الفرق بين حامل شعلة العلم والوعي وبين فاقدي هذه المقومات مع حرص كبير من ممثل الدولة “الصادق العساس” في تكريس القطيعة بين المعلم والأهالي المتواجدين معه في نفس الفضاء، وضعية يتفاعل معها الشاعر مرزوق لينشد قصيدة مطلعها:
“زرعت الكرم في شعب الغرر
جنيت الثمر عجرم ودرياس في الطعم مر
زرعت الكرم في شعب العوج
جنيت الحدج…”
وهو تنزيل لمعاناة المفكر في الأوساط الشعبية التي تسعى لمقاومته وصده رغم خوضه للصراع من اجلهم أساسا، وهي ظاهرة لازالت تلقي بظلالها على مجتمعنا حتى اليوم. كما تطرح قضية المرأة والنظرة الدونية لها من طرف شيخ الزاوية في حوار له مع الشاعر مرزوق حين يخبره بحبه ل”حياة” ربيبة “خضرة” فيجيبه:
“النساوين حمّى، داء، يحك المفاصل يخلخلها، النساوين دعوة، سبة، ريح فاسد، ناتن، ينتن، ابعد، اهرب، انجى، البعد منهم سلامة، النساوين درياس، سم، قتال، يحرق، يحصد العروق، ينشف الريق، النساوين عطش ما يرواش، نارهم تشعل من اول الدنيا ما تطفاش، جرح ما يبراش”.
وهي مسألة قديمة حديثة تعود مؤخرا للصدارة في المجتمع التونسي بعد ان باتت مكاسب المرأة مهددة من طرف من اعتلوا دفة الحكم بعد الثورة، يواصل العمل استقراء إشكالات الحاضر عبر التاريخ لتطرح مسألة الماء والخصوبة عن طريق شخصية خضرة، ونلاحظ هنا ترابط الرّمزيات فيما بينها لتوصلنا للمفتاح الذي يشكل لنا قراءة شاملة لتسلسل المعنى، موت خضرة غرقا في احد الوديان سنة 1969 هو إشارة لتجربة التعاضد التي أجهضت آنذاك رغم ما كانت تحمله من بوادر أمل.
ينتهي استقرار الشخصيات في الزاوية بوفاة “حياة” حبيبة “مرزوق الشاعر” والتي لا نراها طيلة العمل الا من خلال الحديث عنها أو في شعر مرزوق، تنتهي تحت عجلات “كميون الجدرمية” الذي دهسها أمام مدرسة القرية، لتتقاسم جميع الشخصيات – باختلافاتها- الحزن والاسى قبل ان يتفرقوا فيقضي كل نحبه بطريقة وتخلو الدشرة من متساكنيها، ويظل “مصباح المعلم” حيا، حتى اليوم.
تجربة تضعنا أمام فكرة مسرح شعبي منغرس في المجتمع يُطرح فيه الواقع للتشريح عبر أدوات عدة أهمها التاريخ، ومجموعة طبقت عن وعي ملحمية دياليكتيكية مجتمعنا في أشد الحاجة إليها خاصة اليوم، ورغم قسوة الظروف وانعدام الامكانيات فان هذه المجموعة آمنت بـ:
“ما دمت على قيد الحياة لا تقل أبدا: أبدا
ان ماهو أكيد ليس بأكيد.
فالاشياء لن تبقى على ماهي عليه…
و”أبدا” تصبح “قبل” عند أفول النهار”
وائل حاجي