عديد التقارير التي تناقلتها وسائل الإعلام، المحلية منها والدولية، حول إسناد جائزة نوبل للسلام إلى الرباعي الراعي للحوار الوطني المتمثل في منظمات الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين، اعتبرت الحدث تاريخيا ويستحق كل التقدير.
ولئن رحب التونسيون والتونسيات بإسناد هذه الجائزة إلى الرباعي وعبروا عن تقديرهم للمجهودات التي بذلها هذا الأخير، فإن العديد منهم دافع عن أهليّة شباب الثورة ومناضلي المجتمع المدني والنقابيين والنساء والقوى السياسية التقدمية واليسارية، للفوز بتلك الجائزة العالمية باعتبار الدّور المحوري الذي لعبته في الإطاحة السلمية بنظام الإستبداد والتبعية ومنع السطو على الثورة ومناداتها لاحقا بضرورة عقد مؤتمر وطني للحوار، انخرط فيه منذ البداية الثلاثي ( الإتحاد العام التونسي للشغل، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وهيئة المحامين) قبل أن يلتحق به في ما بعد الإتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية ، فيما عبر حينها كل من حزب المؤتمر وحركة وفاء ومجوعة محمد عبو عن رفضهم لهذا الحوار واعتباره محاولة لسحب البساط من الشرعية القائمة آنذاك… في الأثناء نجح “اعتصام الرحيل”، بجهة تونس وبمختلف جهات البلاد، في تعبئة مئات الآلآف من التونسيات والتونسيين من أجل إنهاء حكم “الترويكا” الفاشلة والمتورطة في أزمة البلاد واستفحال العنف والإرهاب.
لا يخفى على أحد أن فصول الثورة لم تكتمل، وأن جلّ مهامها لم يقع إنجازها وأن الحوار الوطني كان مدخلا اضطراريا لإيجاد نقطة التوازن بين القوى السياسيّة على اختلاف مواقعها (في الحكم وفي المعارضة)، حول بعض المهام العاجلة المتعلقة خاصة بمقاومة العنف وانتشار السلاح والتصدي للإغتيالات السياسية ومنع التدخل الخارجي، من طرف بعض القوى الإقليمية والدولية ويظل قائما طالما أن عملية بناء الجمهورية الديمقراطية الإجتماعية لم تنتهي بعد وعملية تركيز الهيئات الدستورية تشكو التردد والبطئ والعدالة الإنتقالية لا تزال معطلة أو قل في حالة شلل تام… لكن لايجب تأبيده كبديل عن الخيارات الإقتصادية والإجتماعية. فلئن وفّر الحوار الوطني، برعاية الرباعي، مناخا سياسيا عاما أقل توتر وأقل آحتقان وتجييش، عبر طرح بعض إمكانيات التوافق حول بعض المهام المرحلية، من ضمنها إقالة حكومة العريض وحل ما يسمى زيفا “روابط حماية الثورة”، على الطاولة وأمام الجميع، فلقد انقاد بالمقابل، تحت ضغط ميزان القوى السائد آنذاك وفعل التأثيرات الخارجية، الإقليمية منها والدولية، إلى إسقاط بعض المهام المطروحة، من أهمها كشف حقيقة الإغتيالات ومراجعة التعيينات، التي قامت بها حكومة الترويكا في إطار السطو على الإدارة والإستيلاء على مفاصل الدولة ووضع حد لما يسمى ب “الأمن الموازي” كشروط دنيا لانتخابات حرة ونزيهة وانتهى بإحالتها على حكومة “التكنوقراط” اللاحقة، برئاسة مهدي جمعة، التي سرعان ما تنكرت لها وتملصت منها إرضاء لأطراف الترويكا التي كان لها الفضل في ترشيح هذا الأخير لرئاسة تلك الحكومة.
وفي ظل هكذا أوضاع، لم يكن أمام المعارضة الواسعة المتمثلة في “جبهة الإنقاذ” إلا العمل على إيقاف المنحى التخريبي للمسار الثوري على يد الترويكا الحاكمة بقيادة حركة النهضة والقبول ببعض التوافقات لسد الطريق أمام إرادة السطو على الثورة. تلك هي بعض العناوين التي وجب إبرازها حتى لا تكون جائزة نوبل للسلام المسندة للرباعي جائزة “مفخخة“ تلهينا عما وقع إسقاطه من مهام الثورة وتشيع عقلية الرضى بما تحقق من المهام وتمهّد بذلك الطريق لآختزال المسار الثوري في بعض المكاسب المنقوصة، من ناحية، وفي عبقرية بعض الأطراف دون غيرها، من ناحية أخرى، وحتى لا تكون مقدمة للدفع باتجاه بقاء “تونس الثورة” ضمن دائرة تأثير المؤسّسات المالية العالمية وخياراتها التقشفية. وفي هذا السياق، وجب الوعي بأن السلام الحقيقي يفترض احترام إرادة الشعوب في تحديد خياراتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية كما يفترض حريتها في تصريف شؤونها وإدارة صراعاتها الداخلية على قاعدة مصلحة الشعب والوطن. فعلى هذه القاعدة فحسب يكون الحوار الوطني مجديا ومفيدا والخطر كل الخطر أن يقع توظيفه لإخفاء فشل السياسات المتّبعة من جل حكومات اليمين لما بعد الثورة وأن يستغل استعداد المعارضة والقوى الديمقراطية للقبول ببعض التوافقات الظرفية لتأبيد تلك السياسات اللاشعبية التي طالما قاومها الشعب التونسي إلى أن ثار عليها ذات 17 ديسمبر 2010.
اليوم، كلنا ندرك جيدا أن المشهد السياسي السائد في تونس مازال غير مستقر لصالح من قاموا فعلا بالثورة وجائزة نوبل للسلام، التي وقع إسنادها للرباعي، لا يجب أن تخفي علينا إمكانيات المناورة والمخاتلة التي تتربص بمستقبل شعبنا…فهي بهذا المعنى تظل بعيدة عن القداسة، فلقد سبق وأن تحصل عليها من لا يمتّ بصلة إلى السلم الأهلية أو العالمية كما سبق وأن رفض المفكر والكاتب الفرنسي “سارتر” تسلمها ويبقى المهم في كل ذلك أن يكون الحوار الوطني مسنودا بخيارات اقتصادية واجتماعية وطنية وشعبية حتى يكون التوافق السياسي حقيقيا وغير مغشوش.