الصابرات عمل مسرحي مغامر، من انتاج مركز الفنون الدرامية والركحية بالقيروان لسنة 2015، للمخرج والمسرحي حمّادي الوهايبي. في خط سير في ظاهره مفارق للأحداث التي كانت مخفيّة وجاوزت المنطق والمخيال الجمعي من القتل والذبح والفوضى التي يهزّنا بها الواقع يوميا إبّان وأثناء المسار الثوري، جاءت مسرحية الصابرات لتلامس هي الأخرى المخفي والمسكوت عنه في مجتمع مازال لم يستوعب بعد أنه قام بثورة ويعيش تحوّلاتها دون بوصلة توجيه.
مسرحية تدخل بنا إلى الهامش، هذا الهامش الذي يعيش بيننا كأنه العادي والمتداول والمتعامل به لكنه لا يدخل في دائرة المستهلك اللغوي اليومي، وما أن يطفو على السطح إلاّ وتثور ثائرة العامة والدهماء ومحبي الأخلاق الحميدة وغير الحميدة أيضا. وهم في سرّهم وخلواتهم يقترفون المحظور والمنكر والكبائر والصّغائر عن طيب خاطر محمولة على الفتاوي ما صحّ منها وما ضعف، نسبة إلى الصحيح والضّعيف من الأحاديث.
- في أصل الخرافة
تعالج المسرحية في مستوى الخرافة وضعية مجموعة من النسوة البغايا اللواتي يعملن في دور الخناء الرسمية التابعة للدولة، إذ انّهن يدفعن الضرائب للقباضة المالية مثلهن مثل بائع الملابس المستعملة. وفي بداية الثورة طالهن النّهب والعبث والتشريد. هجم جمع من الناس بقيادة الملتحين المتشددين دينيا وأخرجوا النساء تحت وابل من الشتائم والضرب والإهانة والتّشفي. وخرجن دون وجهة محددة. بلا مأوى ولا سند ولا عائل ولا حامي لهنّ سوى خميّس الذّي ولد في الماخور بلا أب وهو ابن “البطرونة”، الذي يحاول هو بدوره استغلالهن والثورة على وضعه وتفجير مخزون الحقد الذّي يحمله جرّاء واقع لم يختره.
صراع بين النسوة الهاربات وصراع داخلي تعيشه كل واحدة منهن وهي تشق لها عبر مساحات احلامها طرق الخلاص والنجاة، لكن دون جدوى. بين انغلاق أفق الواقع الذّي جلببه “الدّواعش” وأذرع المتأسلمين في السلطة وفي الشارع تبخّرت احلامهن في الخروج من مأزق الرفض الاجتماعي.
بكل تلك الأحداث وتلك الصراعات وتلك الأوجاع تعود حليمة لعادتها القديمة ويعود خميّس “الماكرو” الذّي يسيّر فريق العمل في شوارع المدينة العتيقة والحديثة. وانفلق ماخور المدينة البلدّي المرخّص من قبل السلطة إلى انتصاب فوضوي يعم البلاد وينتشر في الأزقة وتقاطع الطرقات وخميّس ينظّم حركة السير، وحركة الزبائن ودخل الموميسات.
- في المعالجة الفنّية
من الصعب كتابة الخرافة، نصا متماسكا، حبرا على ورق، لكن من الأصعب كتابتها بمفردات المسرح، تمثيل وضوء وموسيقى وديكور وإيهام وجهد يخترق مستطاع الجسد، ليصل بالمتلقي الذي يلتقط كل شفرات العمل إلى لحظة النشوة التي يطلبها ولحظة الانفعال التي تتسرّب إليه من ضوء الحركة وإلْتِمَاعَة الجسد تحت طاقة التفاعل مع مكونات الرّكح ومع باقي الممثّلين ليوحوّل تلك الشفرات إلى علامات ودلالات واضحة تحمل معنى بيّن.
ركح مؤثث بأعمدة من الكهرباء وطاولة للمرهقين والمتعبين في أحد شوارع مدينة تعيش على وقع ثورة حوّل وجهتها الخارجين من كهوف الماضي، في هذا الفضاء الفقير من الديكور تتولّد الأحداث وتتسارع لتتشكّل الحكاية مزيجا من الضوء والموسيقى والحركة.
حسام الغريبي ذلك الفتى النّهم إلى الحركة والمملوء بطاقة لا تخالها عنده وأنت تلاقيه في الحياة اليومية شدّ بهجة الفرجة إلى أقصاها وهو يعطي ويأخذ الطاقة الوقّادة للممثل من شريكاته على المسرح، وفي الصّابرات شريكاته اللواتي أبدعن هنّ الأخريات بدرجات متفاوتة ودرجة إقناع مختلفة من حيث الأداء والتفاعل واللعب عموما. ما يشدّ الانتباه والتشبّث بالفرجة إلى آخر العرض هو النجاح في رسم صور على درجة من الجمالية في توظيف لحركة الممثل واللباس والديكور وتموضع الممثلين على الرّكح.
إن التحولات الاجتماعية الكبرى التي تشهدها الشعوب تعصف في غالب الأحيان بمجمل القيم التي كانت تسود قبل ذلك، وفي ما يذكر التاريخ في موضوع الحال في ثورة أكتوبر 1917 عالج الثوّار وضعيّة البغايا اللواتي كنّ في عصر روسيا القيصرية معالجة جذرية تعاملت مع المرأة كإنسان خارج دائرة منطق جسد المرأة العورة وصوتها من خلف ثقب الباب عورة. فتزوّج الجنود والمقاتلون من النساء اللواتي دفعتهن الحاجة وظروفهن الاجتماعية إلى بيع أجسادهن.. لكن المقاربة التي تناولت بها المسرحية لوضعية المومسات في تونس ارتكزت على نقل الواقع ونبّهت إلى أنّ هذه الفئة ستفرّخ في شوارع المدينة مواخير سرّية ونساء طريق في كل أحياء المدينة.. فتنغلق المسرحية على مشهد فيديو يصوّرهنّ على قارعة الطّريق ينظّم وقوفهم ورصد زبائنهم تحت حماية خميّس الفتى الذّي ولد في الماخور. كأننا نؤكّد ذلك المثل الشعبي العامّي الذّي يقول أنّ “الحجرة اتّوب…….”.
- ملاحظات عابرة
الفولارة التقليدية التي ترتديها أمهاتنا كانت حاضرة بكثافة في لباس الممثلات وهو ما يثير العديد من الحيرة في علاقة تلك الفولارة بالذاكرة التي نختزنها مذ كانّا صغارا وما تحمله من دلالات تحيل على العفّة والمعاناة والصّبرْ.
النّبض الناظم للنّص يرتفع ويخفت مع كل شخصية ففي حين يصل إلى اقصاه مع شخوص يعود لينخفض مع البعض الآخر فهو لا يحافظ على نفس الوتيرة والشحنة التي نلقاها في معظم مقاطعه وهو ما يستوجب حسب رأي العمل على مزيد شحنه عاطفيا ونفسيا من حيث إختيار اللغة من جهة ومن حيث طريقة النّقط والتلفّظ من جهة اخرى.
الأحذية المتشابهة والمستنسخة بنفس الشكل والقالب واللون لا تأخذنا إلى الاختلاف الكامن في كل شخصية والألم المدفون في كل إمراة تعيش تلك الوضعية. وهو ما من شأنه أن يذيب ذلك الاختلاف المحبب في البناء الدرامي بين عوالم الشخصيات.
المشاهد المصوّرة بالفيديو لإن كان لها وقعها في بداية العرض بوضعها المتلقّي في عوالم الأحداث زمنيا وسياسيا لما تحمله من سطوة الوثيقة التاريخية والواقعية فإن المقطع الأخير أثقل العمل حين خرج من دائرة الوثيقة إلى فلك التمثيل..