كنّا نتوقّع ولا نتوقّع.. حالة متداخلة من الوعي بالخطر المحدق، بالإرهاب الذي صار يرابض بالجبل شبحا ثقيلا. إننا لا نتوقّع.. فكيف نتوقّع والأشباح لا تُرى؟ حكاية أكثر حبكة خياليّة من قصص الجَدِّ، صعبة الهضم والتخيّل. فهنا لا ثقافة غير الموروث الذي تتداوله الأجيال فيما بينها. لا مجال لمشاهدة أفلام الرعب ولا حتى شاشة قد تحمل إلينا ما يزيل وحشة المكان ويربطنا ببشر آخرين قيل أنّهم موجودون هنا يشاركوننا راية حمراء ترفرف فوق بنايات لا نعرف أسماءها، لا نعرف أسماء مسؤوليها ولا نعرف كيف سقوا الورود في تربة ساحاتها العمومية أيّام الانتخابات. لا نعرف أرقام هواتفهم. وما الهاتف في غياب الشبكة؟ نحن نهتف لأنفسنا ونهمس بما يقال سرّا في وثائق الدبلوماسيّات “أنّ الإرهاب هنا” يحيط بنا فيتغلغل في عروش الروح ويلجمها ونحيط به إذ نحفظ عن ظهر قلب دروب مخابئه.
ونتوقّع.. نتوقّع، أوّلا لأنّ تونس كلّها تعرف بالأمر – تونس النّاس والمكاتب، تونس الجنوب والشّمال، البسطاء وموظّفو الدّولة عندما يرفعون حواجبهم وهم يقرؤون ذلك الخبر في احدى الصّحف غير مبالين إلى أيّ عار ينتمي الخبر، النّساء اللّاتي يعملن في الحقول اذا ما تألّمن من شدّة الانحناء همسن في خلدهنّ تذرُّعا للوليّ الصالح في الجبل أن يبعده عن الطّرق الوعرة التي تحمل فلذة أكبادهنّ للقوت والحياة. الأطفال في المدارس هم أيضا يعرفونه ويتوقّعونه رغم برنامج التعليم الفارغ، يدركون أنّه هنا يرابض فوق طفولتهم ويمنع الأحلام من الوصول، الحمّالون في شوارع لا تهدأ يتوقّعونه دون أن يجلسوا في المقاهي ولا أن يجدوا الوقت لسماع الحيرة في صوت المذيعة المتشائمة وهي تقرأ متعثّرة نشرة الأخبار. لقد صوّروا الجبل، صوّروه برمّته فكيف لا نتوقعه؟
وثانيا نتوقّعه لأننا تلقّينا التهديدات، نحن المُعدمون الذين لا نملك ما يسدّ رمق أفواهنا رغم قلّتها. تلقّينا تهديداته في الصّميم…في حياتنا…فلا شيء لدينا يراهن عليه غير حياتنا لذلك دكّ صميمنا مباشرة، فلا أبواب ولا سياج ولا طريق يغيّر من منحى نفاذه إلينا. هو يعرف كما نعرف أننا نراود ذات المكان كأننا جنديَّيْن يتبادلان حصص الحراسة كلّ ما يجمعهما المكان والاضطرار ويختلفان في الانتماء. فأحدنا جنديّ الأرض وابنها وصاحبها وآخرنا محتلّ ومغتصبٌ وقاطع طريق. أو كأنّنا راع وذئب. راعٍ، الْتوَت الطّرق الوعرة في قلبه فعرّشت ياسمينةَ ظِلٍّ للخراف وندبت أصابعه الصّغيرة أشواك الجفاف فحفرت بِرَكَ ماء لصغارها عسى تكبر يوما وتغلق بابا للاحتياج. وذئبا، يثبُ كلَّ غدرٍ يَعُضُّ أثداء المرضعات ويترك رسائله لوثا من الدّماء في بياض الحليب.
فكيف لا نتوقّعه؟ ورسائله نتناولها في الحليب خطوطا من الدّماء والوعيد الهادر للرّوح والصّباح. فكيف لنا أن لا نتوقّعه ومكره المُطَمْئِنُ بأنّ هذا الجبل لك “فأغزُهُ متى شئت من طرف البدء فيه إلى المنتهى، من “تاغوت” لعين “جفال” فلا تجفل وكن مطمئنّا، فلو شئنا قلبنا جوفه لغمًا لغمَا وجعلناه صرحا مسبيّا إنّما نحن نبغي جند الدّولة، نبغي ندكّ الأمن، نبغي جيشا. فَسِرْ مغمض العينين واعدم شفتيك في أقرب مقصلة للكلمات وكن نبيّا مجنونا لا يعرف كيف يتلو آيات الرّعب على “سلاطنية” لم تفكّ الحرف ولا ضمّها الفتح المزعوم لأمّة “اقرأ”.
كيف لا نتوقّعه؟ و”مبروك” يعود من تلاوة الوحي عليه محتضرا لا يدري أنّه بات مسيحا مطلوبا للذبح. فلا هو يطلب دثارا للدّفءِ ولا خيوط عنكبوت هناك تُلجئه حينا يزول الخطرُ فيمضي، ولا هو معتكفٌ في ظلٍّ يقيه شرّ العودة إلى مواسم الحرائق والصّلب.
كيف لا نتوقّعه؟ وكلّ شاة في الجبل عجزت عن درء رقبة “مبروك” عن النّحر. إنّ سكّينا فضّيّة مصقولة حادّة في يدٍ لم ترتعش قيدَ إنسانيّة عن التّنفيذ غاصت بأمرٍ بشريّ في اللّحم الطّريّ، ورغم دموع الدّنيا قاطبة فاضت من عينيه، نحرت في لحظةٍ ضدّ صرْحِ الخلقِ إذ شهقَ الخلقُ بأزلهِ، ينتفض من سيلان الدّم الحارق، يهزّ عرش الأرض والدّنيا معا.
كيف لنا أن لا نتوقّعه؟ وهو يتوقّع شراءنا في صفقة رابحة إذ لا يعرف بأيِّ الأثمان يبيع نفسه من جَهَلَ القراءة وعاش في الهامش، عاش مثلي تحت درجة الصفر، بل أكثر، تحت الصفر ربما بثلاثين درجة. هل يوجد يا سادتي درجة أقل، اعذروا جهلي وقلّة ذات “الحسابات” عندي. أ لم أقل أنّي لا أعرف حتى بكم نفسي أبيع؟ كيف لنا أن لا نتوقّعه؟ وهو الأقرب في قدرته إلينا إذ تسمح له تضاريس المنطق ترتيب لسعات الجوع إذا ما طافت في الجسد. فيوزّعها علينا في جيوبه ثمنا… وتسألون عن الكرامة. ما الكرامة سادتي إن كان الموت أمرا مقضيّا؟ ما الكرامة سادتي إذا ما تقاعست علينا الحياة وتعدّدت أسباب الموت؟ ما الكرامة سادتي إذا كان هذا الطريق يؤدّي حتما وفي كلّ الظّروف إلى الموت؟ إنني أخجل سادتي أن أعرّي لأعينكم كلّ هذا القبح ولكن نحن إن لم نمت من الجوع وتسمّم “الخبيزة” و”الخرشف” فإننا نموت عطشا. وإن نجونا منهما حينًا فإنّه يقتلنا… هو، هذا الذي نتوقّعه، يقتلنا. لا تستغربوا “كيف نموت عطشا”. إنّ الماء يا سادتي لا ينزل من الحنفيات كما تتصوّرون ولا يصلنا معلّبا في القوارير التي ترمون نفاياتها لاحقا في الجبل. إنّ الماء يا سادتي في الجبل فإذا ما كان “هو” الذي نتوقّعه بالجبل فإننا نضحى بلا ماء فنموت عطشا. عطشا إرهابيا. نموت موتا مضاعفةً. وإننا على قدرٍ سواء يحبسنا قيد الفقر. ومع ذلك فنحن لم نبع أنفسنا. فعدم الإخبار عنه لم يكن بمقابل وإنما كان درءً لخطر خلناه لن يحدق لو على وجعنا تكتّمنا. لكنّ موت “مبروك” كان جاهزا لا محال. مات “مبروك” ونحن نصطفّ أيضا وراءه في صفّ الرّحيل، فلا ملاذ ولا حامٍ لنا.
مات “مبروك”، نموت نموت ويحيا الوطن…
لكن ما الوطن؟ وأنا لا أعرف منه غير بطاقة التعريف؟ ما الوطن وأنا لا أعرف ما معنى الانتخاب؟ شخص يمثّلني؟ لا يوجد مترشّح للانتخابات في حاجة ليمثّل المعطوبين في وطن على ناخبيه إمّا أن يكونوا مدّاحين أو بكّائين. وماذا يفعل بزيارتنا؟ هو يعرف جيّدا أنه لا أصوات لنا. لا أصوات لمن يموتون بسبب اللّسعات السّامّة، لا أصوات لمن يموتون في الخلاء إذ ظلّوا الطّريق في قفار بلا طريق. لا أصوات لمن أقرب مشفى لهم كيلومترات طويلة يموتون فيها قبل الوصول.. ثنايا موجعة لمن فقدتهم الخطى دون أمل في العلاج، خطى الحوامل يلدن الموت في الموت، بل لا ينتظرن مواعيدهنّ فيغادرن سريعا من أثر الثّقل وإنهاك الحياة دون صخب أونحيب…
هل هذا هو الوطن؟ وطن يرى الرّضع في المقابر ولا ينتفض.. وطن ينام عن جوعنا.. وطن يُرَصّفُ شبابه على ناصية المبغى يبيع وما من مشترٍ.. أيّ وطن هذا الذي لا يأتي فيه العيد لطفل مثلي؟ أتدركون غصّة العيد في حلق من كان مثلي؟ إنها تَذبح طراوة طفولتي كما ذُبح مبروك، وعلى مرأى من عيوننا ننزف فنُغمضها رأفة من المشهد ولا تغمضها الذئاب.
وما الوطن؟ هو الفقر.. والفقر.. والفقر..
هو حوكمة لا رشيدة هي ولا مفهومة، تهدم حصونها وتُسقط ثكناتها فاتحة سلامتها للعدو؟ هل وطن هذا يزايد بنا في حوانيت السّياسة ولا يسمح لنا أن نكون جندا حماة لأرضنا التي خبرنا وعرها ومسالكها؟
وما الوطن؟ هو أن يأتيك “رأسٌ” كلُّ دموع الدنيا في عينيه ولم تغرقوا خجلا…
هذا هو الوطن أخاف أن لا تعرفوه أنتم أيضا ما دام في بيوتكم ثلاّجات… تخلّصوا منها قبل أن يأتي يوم تفتحون فيها عن رؤوس أبنائكم.
(بقلم: نسرين مباركة حسن)