الزمان: 12-10-2015. المكان: صبراتة مدينة ليبية تقع في الغرب الليبي على بعد ستين كيلومتر من الحدود التونسية الليبية. الحدث: مجموعة ليبية مسلحة تحتجز ما يقارب 50 تونسيا يعملون في ليبيا وتنقلهم الى معسكر البراعم. توضح سريعا أن عملية الاحتجاز على علاقة مباشرة بايقاف السلطات التونسية يوم 11-10-2015 بمطار تونس قرطاج عضو مجلس بلدية صبراتة حسين الذوادي. بعد يوم من الحدث، يتم فك احتجاز التونسيين وتفرج السلطات التونسية عن الذوادي.
قبل ذلك، كان المكان مدينة الخمس التي تقع في الغرب الليبي على بعد 120 كلم من العاصمة طرابلس. وكان التاريخ منتصف الشهر السادس من سنة 2015. والحدث لم يتغير آنذاك كثيراً: ميليشيات مسلحة تسيطر على مدينتي الخمس ومصراته، تحتجز حوالي خمسين شخصا من العمال التونسيين بمقر الأمانة العامة السابق بمدينة الخمس على خلفية اعتقال السلطات التونسية للمدعو وليد القليب أحد المسؤولين المتنفذين في قوات فجر ليبيا التي تسيطر على الغرب الليبي والعاصمة طرابلس. السلطات التونسية تقول إن القليب متهم في قضايا لها علاقة بالارهاب والتحريات معه متواصلة في ذلك الوقت ولم تستجب الى مطالب انصاره في ليبيا بالافراج عنه مما اضطرهم الى احتجاز التونسيين الخمسين في الخمس بالاضافة الى ثمانية آخرين في بوابة بمنطقة قصر بن غشير التي تقع بين الخمس ومصراته. النهاية تتشابه: السلطات التونسية تفرج عن القليب، والتونسيون يتم الافراج عنهم من قبل محتجزيهم.
بمناسبة كل حادثة احتجاز، يتغيّر الإطار المكاني والزماني، فيما تظل أدوات الإحتجاز وأهدافه ثابتة. الأدوات تكون دائما مجموعة مسلحة تحتجز والهدف الضغط خارج الحدود الليبية وتحديدا في تونس لتسهيل الافراج عن شخصية ليبية نافذة تم اجراء تتبعات قضائية في شأنها بتهم تتعلق بشبهة اقتراف نشاطات إرهابية.
تحولت عمليات الاحتجاز للغة تعامل ديبلوماسي بين تونس وجيرانها في الغرب الليبي. وينسب استعمال الاحتجاز كوسيلة تخاطب دبلوماسي عادة لمجموعات ليبية مسلحة خارجة عن القانون وان تبين في بعض الحالات أن هذه المجموعات جزء من السلطة قبل أن تكون خارج القانون. فعملية الاحتجاز التي تمت لأعوان ديبلوماسيين تونسيين من داخل القنصلية العامة التونسية في طرابلس بتاريخ 12/06/2015 كشفت عن علاقة استعمال الاحتجاز كوسيلة اتصال مع الجارة تونس وأداة ضغط ديبلوماسي عليها بالسلطة السياسية القائمة في الغرب الليبي. تعمدت في هذا التاريخ مجموعة مسلحة ليبية اقتحام القنصلية العامة في تونس واحتجاز من كان فيها لتقايض اطلاق سراحهم بالافراج عن المواطن الليبي وليد القليب وهو احد افراد عائلة وزير العدل في حكومة الانقاذ الوطني في طرابلس ليقترن كما هو الحال دائما الافراج عن المحتجزين بافراج القضاء التونسي عن وليد المقلب.
حاولنا البحث في ملف الاحتجاز. لم نجد سبيلا للوصول لجهات شاركت في عمليات الاحتجاز، لأن أعضاء تلك المجموعات يلتزمون بقواعد صارمة فيما يتعلق بنشاطها. فيما قادنا بحثنا الى عامل تونسي كان من ضحايا الاحتجاز، قبل هذا العامل أن يدلي بشهادته لنا. إلا أنه اشترط عدم ذكر هويته كاملة خوفا على سلامته خصوصا وأنه لم ينقطع عن العمل بليبيا.
أفادنا مختار ع. أن دورية أمنية تابعة للألوية العسكرية التي تسيطر على مدينة مصراته أوقفته. وتم اقتياده الى مقر الأمانة العامة سابقا في مدينة الخمس. يقول مختار: “عندما أدخلوني الى مقر الأمانة العامة، وجدت عددا من التونسيين محتجزين هناك. لم أعرف عددهم بالضبط. لكن أعتقد أن العدد يتجاوز الخمسين. خاطبونا بلهجة فيها قليل من الحدة لكن لم يتعرض أي منا الى سوء المعاملة أو الاهانة. لم يخبرونا حتى بسبب احتجازنا وعما اذا كانت هناك تهم موجهة الينا.” الا أنه يضيف: “لم نكن نشعر بخوف كبير في الحقيقة فقد كان أصحاب العمل يزوروننا، وبعض الأصدقاء من الليبيين. وكانوا يقولون لنا لا تخافوا: فقط هذه وسيلة للضغط من أجل إطلاق سراح شخص في تونس وستعودون قريبا الى أعمالكم أو الى تونس”.
كشفت الشهادة التي توصلنا إليها عن تحول الاحتجاز الى حدث شبه طبيعي يتعايش معه المختطفون ويرتبط هذا التعود بالاحتجاز الى تواتر عمليات الاحتجاز التي انتهت بشكل سلمي. ويبدو بالتالي الاحتجاز في آثاره أقل وطأة من الاختطاف والسلب والاختفاء القسري، وهي أخطار تلازم العمال الاجانب عموما داخل التراب الليبي في ظل انهيار الدولة و تردي الوضع الأمني.
واللافت أن خطورة الوضع الأمني في ليبيا لم تمنع التونسيين من اجتياز الحدود بحثا عن العمل وهربا من البطالة، في رحلة تظل مخاطرها أقل من مخاطر ركوب قوارب الموت في اتجاه الشاطئ الشمالي للبحر المتوسط، وان كانت لا تقل عنها في جرأة مغامرة المعطلين عن العمل في بلدهم والباحثين عن الحق في العمل والحياة خارجها.
هشاشة وضع العمالة التونسية بليبيا: تحت سلطة القانون خارج حمايته
لم نجد لدى جهاز الحدود والاجانب بطرابلس معلومات دقيقة عن العمالة التونسية بليبيا وذكر لنا عدد تقريبي هو مائة الف، نفس الغياب للإحصائيات الرسمية الدقيقة سجلناه لدى السلطات التونسية التي كان لها التقدير نفسه. قادنا بحثنا عن معطيات مفصّلة وأدقّ للناشط الحقوقي التونسي مصطفى عبد الكبير رئيس اللجنة التونسية الليبية لفضّ المشاكل الحدودية. وقد أكّد لنا محدثنا أن الجالية التونسية بليبيا تتركز أساسا في الغرب الليبي بحساب خمسة وثلاثين ألف مواطن مع وجود جالية تونسية بالمنطقة الجنوبية بمدينة سبها والقرى المجاورة لها يبلغ عدد أفرادها ثلاثة آلاف شخص فيما لا يستقر بالمناطق الشرقية إلا ألف تونسي. كما أكد محدثنا أن ثلاثة آلاف فقط من التونسيين المقيمين بليبيا يتمتعون بإقامة قانونية وهم يعملون أساسا في القطاع الفندقي والخدمات ومؤسسات الدولة. ليكون عدد العمال الذين لا يتمتعون باقامة قانونية خمسة وثلاثين ألف عامل يضاف إليهم عشرون ألف عامل غير مستقرين بليبيا أي يترددون بين تونس وليبيا بشكل دائم وأحيانا يومي وينشطون أساسا في التجارة الموازية أي تهريب البضائع والسلع من تونس الى ليبيا وبالعكس.
تبدو المعطيات التي توصلنا إليها دقيقة باعتبار أن مصدرها وإن كان جهة غير رسمية الا انه يرأس لجنة تتكون من أبرز المسؤولين الحكوميين المحليين عن المناطق الحدودية بكل من تونس وليبيا. ويكشف تحليل توزيع العمالة التونسية بليبيا أن أقلية من تلك الجالية تتمتع بالإقامة القانونية فيما تظل الأغلبية خارج حماية القانون ومهددة بالترحيل.
لا يتمتع خمسة وثلاثون ألفا من جملة العمال التونسيين بليبيا بوثائق اقامة. ويستفاد من ذلك أن هؤلاء العمال خارج حماية القانون ولا يتمتعون بالتالي بالتغطية الاجتماعية ولا بتغطية صحية. كما أنهم عرضة بشكل دائم للملاحقة الأمنية ومخاطر الترحيل، خصوصاً وأن القانون الليبي يعتبر أن كلّ أجنبي مقيم بشكل غير شرعي مهاجر سري يجوز ترحيله وفق أحكام المادة الأولى من القانون رقم 06 لسنة 1987 المتعلق بتنظيم دخول وإقامة الأجانب في ليبيا.
تعطي سلطة السلاح للمجموعات المسلحة سلطة خارج القانون على الأجانب في ليبيا. فيكون هؤلاء تحت رحمة المليشيات والجماعات المسلحة. وتمنح أحكام القانون للمؤجرين سلطة لا تقل حدة على الجانب الاكبر من العمالة الاجنبية، بما أن هذه القوانين تشجع المؤجرين على عدم تسوية إقامة العمال لديهم ليكون هؤلاء في حالة إذعان دائم لهم خوفا من خطر الترحيل. لا يحمي القانون العمال من تعسف أصحاب العمل فيما تكون أحكامه معهم مشددة فيما يتعلق بوثائق اقامتهم وذلك رغم عدم مسؤوليتهم عن رفض المؤجرين التصريح بهم كعمالة قانونية. وتزداد هشاشة وضع العمالة كلما اتجهنا نحو الشرق أي كلما ابتعدنا عن الحدود التونسية الليبية واتجهنا نحو مناطق نفوذ المجموعات الجهادية وإن كانت تلك المناطق حاضنةً لجالية تونسية فاعلة خارج القانون. وتاليا، يترافق الابتعاد عن الحدود مع ابتعاد عن الحماية ويشكل مؤشراً على تغير في العلاقة مع الدولة الام والدولة المضيفة.
الشرق الليبي ممنوع على العمالة مجال لفكرة عابرة للحدود
لا تستقطب مدن الشرق الليبي الجالية التونسية. ويعود هذا لكون تلك المناطق بعيدة جغرافيا عن تونس. ويعزز التوتر الأمني في مدن الشرق من البيضاء الى درنة مروراً ببنغازي عزوف التونسيين عن الهجرة نحو الشرق. ندرة العمالة التونسية بالشرق الليبي لم تمنع أن تكون هناك جالية تونسية ترفض التقسيم الجغرافي وتسعى لبناء مفاهيم جديدة لا مكان فيها للمواطنة والوطن وشعارها الجهاد والدولة الاسلامية.
يذكر مصطفى عبد الكبير أن عدد الجهاديين التونسيين بالشرق الليبي لا يقلّ عن ألف وخمسمائة شخص منهم أكثر من مائة وخمسين من قيادات الجماعات الجهادية. وهو الأمر الذي أكده الصحفي الليبي محمد المصراتي الذي ذكر أن أغلب الجهاديين الأجانب في ليبيا تونسيون.
أعادت الظاهرة الجهادية رسم جغرافيا المنطقة المغاربية، فتحول الطريق من تونس الى ليبيا الى طريق حرب دينية تستهدف مفهوم الدولة. حولت هذه الحرب جانبا من التونسيين الى رعايا لجماعات ارهابية وجانبا آخر منهم لأمراء داخل هذه الجماعات في اطار حركة غزو معلنة للتراب الليبي يأمل المشاركون فيه أن يعودوا في إثره إلى غزو تونس. واتجه جانب منهم نحو الشرق العربي في إطار ذات الهدف الجهادي لتكون ليبيا بالنسبة لهم أرض عبور.
بعد تشديد الاجراءات الحدودية في الموانئ الجوية، بات التونسيون الذين يقررون الالتحاق بداعش في ليبيا أو في سوريا يتجهون في مرحلة أولى نحو الحدود التونسية الليبية أي منطقة بنقردان ومنها ينتقلون الى معبر رأس جدير الحدودي أو عبر ولاية تطاوين ومنها الى المسالك المؤدية الى الصحراء الليبية ليستقروا بعدها بصفة دائمة أو مؤقتة بدرنة أو مصراطة وهي من مدن الشرق الليبية التي تسيطر عليها الجماعات الارهابية.
من هؤلاء من يبقى في معسكرات التدريب التابعة لهذه الجماعات في ليبيا وخاصة في مدينة سرت ومنهم من يواصل طريقه الى سوريا عبر تركيا. ويرى أغلب المختصين في الشأن الأمني والجماعات الإسلامية أن أغلب هؤلاء منتمون الى “داعش”.
لم يكن كل الذين انتقلوا الى ليبيا ومنها الى سوريا يمتلكون جوازات سفر. وهو ما يؤكد تنقلهم عبر الحدود بطرق غير شرعية وهو الأمر الذي أكدته عدة عائلات اتصل بها أبناؤها من ليبيا وسوريا وأكدوا أنهم انتقلوا عن طريق مهربين من مدن حدودية تونسية الى التراب الليبي.
وبعد أن اصبحت تونس إحدى أكبر الدول المصدرة للارهابيين الذين يقاتلون في سوريا والعراق، اتخذت الحكومة التونسية مؤخرا بعض الإجراءات التي ترى أنها تحد من تدفق الشباب التونسي على ليبيا عبر البوابات الحدودية البرية، فمنعت سفر من تقل أعمارهم عن 35 سنة الى ليبيا. غير أن هذا الاجراء حرم مئات من الشباب التونسي الذي كان يعمل في ليبيا من العودة الى عمله وقد أرغم أغلبهم على الانقطاع عن العمل والاستسلام الى واقع البطالة في تونس.
في معبر رأس جدير وبعد أسبوع من عيد الفطر لسنة 2015، كان مئات من الشباب يحاولون العودة الى مواطن شغلهم في مدن الغرب الليبي الا أن الشرطة الحدودية منعتهم. اكتفى رئيس مركز الشرطة الحدودي في تعليله للمنع بأن ذكر لنا “بأنها تعليمات من وزارة الداخلية.” حاولنا طرح السؤال على الشبان الممنوعين من السفر بحكم قرار حكومي غير مكتوب: لم يناقش أيّ منهم قانونية قرار المنع أو شرعيته. وقد يعود ذلك لمحدودية تكوينهم العلمي لكن جميع من استمعنا له، عبر عن رفضه لقرار يحرمه من حق العمل ولا يوفر له بديلا. قال لنا أحمد وهو شاب أصيل ولاية نابل في الشمال التونسي “أنا أعمل في محل للحلاقة منذ 3 سنوات في مدينة طرابلس وأنا متزوج وزوجتي حامل …لست ارهابيا حتى أمنع من الالتحاق بعملي … الدولة لم توفر لي عملا في تونس”. شابان آخران من مدينة سيدي بوزيد بدت عليهما علامات الإحباط و الاعياء حدثانا بحزن واستياء شديدين “نحن لن نذهب إلى داعش .. هل وجوهنا توحي بأننا دواعش.. نحن نسعى لتحصيل لقمة العيش التي لم نجدها في تونس. ألا تستحي هذه الحكومة من أفعالها؟ ألا تستحي من أن تمنعنا من الذهاب الى العمل في ليبيا؟ هم يريدوننا أن نعيش بلا كرامة في تونس. يريدون أن نبقى هناك بلا عمل ولا مال و يريدوننا أن ننخرط في الجريمة والسرقة .. هذا عيب ..عيب”.
مرارة كبيرة لمسناها عند عشرات الشباب الذين تحدثنا اليهم. ومنهم من فقد الأمل في الحصول على عمل في تونس ووجد نفسه عالقا في المعبر لمدة يومين أو ثلاثة. ومنهم من اضطر إلى احضار عائلته الى مركز الشرطة الحدودي لإقناعهم بأنه يمتلك مشروعا خاصا في ليبيا وأن مصالحه تعطلت وأنه لا بد أن يعود الى ليبيا لكن دون جدوى…
تحصنت الحكومة التونسية بسلطتها على منافذها الحدودية لتمنع حركة فئة عمرية من السكان نحو ليبيا في اطار تصديها للارهاب الدولي. وتطرح الاجراءات التي اتخذتها أكثر من سؤال حول احترام حق تنقّل المواطنين خارج الوطن الذي ينص عليه الفصل 24 من الدستور التونسي.
كما تولت ذات الحكومة إقامة ساتر ترابي على طول حدودها مع ليبيا للتصدي لتحركات الارهابيين. فباتت بذلك الحدود عنوان سلطة الدولة، هذه السلطة التي تكشف ظاهرة التهريب عن كون من هم خارج القانون يستفيدون أكثر من غيرهم من صرامة الحواجز الحدودية خصوصاً فيما تعلق بحرية تنقل البضائع.
الحدود خط وهمي يصنع ثروة من هم خارج سلطتها
تفصل الحدود بين تونس وليبيا كما تفصل ذات الحدود بين عائلات تشترك في أصولها وعاداتها وتجمع بينها علاقات قرابة ومصاهرة. وتكون بذلك الحدود بما هي إطار لإقليم الدولة سبباً في تشتيت الأسر وإعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية. تحدّ الحدود من الحياة المشتركة وحركة الأفراد والبضائع. لكنها في المقابل تصنع حياة من نوع آخر على مستوى المعابر وحياة أخرى خارج المعابر.
حياة المعابر:
يكاد معبر راس الجدير يختزل المسافة بين تونس وليبيا. لكنه ليس المعبر الوحيد اذ يشاركه معبر الذهيبة وزان صفة المعبر القانوني. تفرض الدولة سلطتها على المعابر فتمنع توريد بضائع كما تفرض على بضائع أخرى أتاوات جمركية وتتحقق من هويات الاشخاص الذين يدخلون مجالها. ويتهم في المقابل العابرون للحدود المعابر بكونها مواطن فساد اداري في مجالي الجمارك والأمن. وتحكم الدولة بالمعابر لم يمنع من تفشي الفساد الصغير فيها، فيما أدى غياب الدولة في المعابر المقابلة من الجهة الليبية لتحكم الجماعات المسلحة في حركة السكان والبضائع خارج القانون. وتكون بذلك المعابر ملجأ من يخضعون للدولة وإن كانت في كثير من الحالات لا توفر لهم الحماية، اما غيرهم ممن يعيشون على الحدود، فحركتهم تكون خارج المعابر ونواميسها.
الحياة خارج المعابر:
إذا كنت قادما من ليبيا، فأنت لا تحتاج للبحث عن بنك لاجراء عملية صرف أموالك. فصرف العملة يتم في احواز بلدة بن قردان على قارعة الطريق امام عيون الجميع وذلك رغم أن القانون التونسي يجرم مسك عملات اجنبية خارج المسالك القانونية. كما لا تحتاج وأنت بالمدن الحدودية للبحث عن محطة بنزين اذ يباع البنزين الليبي المهرب على حافة الطريق واسعاره دون الاسعار المعتمدة بتونس رغم انه مادة مسعرة. اما وسط بلدة بنقردان وبأغلب مدن الجنوب التونسي، فسوق ليبيا هو المكان الذي يمكن ان تجد به السلع المهربة، تلك السلع التي تباع علنا في أسواق بلدية منظمة.
لا يعترف المهربون بالحدود ويخرجون عن القانون وهذا يجعلهم أكثر من يستفيد من الحدود اذ تصنع جرأتهم على الدولة وحدودها ثروتهم وسلطتهم. فيما يقبل غيرهم بالحدود، فيكون تحت سلطتها وسلطة الفساد الاداري الذي يستفيد بدوره من الحدود في اطار منظومة متشعبة من العلاقات تكون الدولة فيها على علاقة بمن يخرق قانونها.
اعتادت الدولة تركيز وحدات جمارك على طول الطريق بين المناطق الحدودية وبقية المدن التونسية. ويتولى اعوان الجمارك حجز البضائع التي يكتشفونها لدى المارة بدعوى انها مهربة رغم ان المارة تولوا شراء تلك البضائع من اسواق تونسية. ويبدو تمركز الجمارك غير عفوي اذ يدل هذا التمركز على تساهل مع التهريب بالمناطق الحدودية مقابل سعي لمحاصرته خارجها.
اختارت الدولة أن تقبل بقانون المناطق الحدودية وأن تضحّي بقانونها لتغطي على إهمالها لتلك المناطق. اعتمدت الحركة التنموية بالمناطق الحدودية بشكل أساسي على حركة السكان والبضائع مع ليبيا. وباركت الدولة التونسية بشكل شبه علني التهريب كبديل تنموي وفشلت في مراجعة اختيارها هذا قبل الثورة وبعدها. فقد أدّت محاولتها للتحكّم في التّجارة الموازية في تلك المناطق إلى تحرّكات احتجاجيّة ألزمتها على التراجع.
ويبدو أن الدولة وبعدما تطوّر خطر الحدود بفعل حركة تهريب الأشخاص المتهمين بالارهاب والأسلحة، باتت اكثر عزما على فرض سلطة قانونها على حدودها. فالأنباء المتداولة إعلاميا في تونس تكشف عن توجه الأمن لمواجهة كبار المهربين بمنطقة بن قردان والجنوب التونسي.
يؤدي الساتر الترابي على الحدود التونسية الليبية وفتح المواجهة مع كبار المهربين إلى تقييد حركة البضائع بين تونس وليبيا ومحاولة حصرها في نطاقها النظامي، حيث تبلغ نسبة التبادل التجاري بين البلدين قبل 2011 حوالي ملياري دينار. إلا أن هذا الرقم تقلص في سنوات ما بعد الثورة الى أن بلغ في النصف الأول من سنة 2014 800 مليون دينار قبل أن ينخفض الى 400 مليون دينار في النصف الأول من هذه السنة. وتمثل ليبيا الشريك الإقتصادي الأول لتونس على المستوى المغاربي والعربي والخامس عالميا بعد فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا. كما تبين الإحصائيات الرسمية أنه يتوافد على تونس حوالي مليون ونصف من الليبيين في السنة بداعي السياحة أو العلاج. ومن جهة أخرى، يهدّد تطوّر الوضع الأمني بليبيا بتداعيات على الحدود قد يكون لدواعش تونس دورٌ في تحريكها. وتحكم الحدود في حركتها وتفاعلاتها تاليا علاقة تونس بليبيا ويكون لحركة التونسيين عبر تلك الحدود اثر على الحدود ذاتها.
تتحول الحدود في علاقة التونسي بليبيا كما في علاقة الليبي بتونس الى مدخل لعالم آخر. عالم يُمنع جانب ممن يطلبون القوت من العبور اليه. فيما يختار غيرهم من تجاوز حلمهم مجرد المعاش الدوران في فلك خط التماس بين العالمين في حركة دائمة ليستفيدوا من الحدود القائمة بفضل قدرتهم على الهروب منها. وتعود الحدود لترسم خطها الفاصل بحثا عن أمن لها وخوفا من فكر جديد بات يهدد ديمومة الدولة ويطرح فكرة دولة لا تعترف بالاقليم كمكون لها. وتظهر بالتالي وضعية التونسيين بليبيا كحالة لا تخص جالية معينة بقدر ما تترجم علاقة شعوب مع حدود لم تشارك في صنعها وتجد صعوبة في تصورها في ظل القانون.
سمير جرّاي: صحفي وناشط إعلامي
(نشر ب”المفكّرة القانونيّة” بتاريخ 20 نوفمبر 2015)