جاءت الضربة – المنعرج يوم 24 نوفمبر 2015 بشارع محمد الخامس في قلب العاصمة، وشعبنا ما زال يلملم جراحه المثخنة من الضربات المتتالية للعصابات الإرهابية التي استوطنت ببلادنا، على مقربة من وزارة الدّاخلية، ووزارة السياحة، وعن البنك المركزي وسلسلة البنوك المتاخمة له، وعن المقر السابق للتّجمّع الدستوري الذي تحرسه دبّابات الجيش ودورياته، وعن دور السّينما المحتضنة لفعاليات أيام قرطاج السينمائية.
الضّربة المنعرج:
يكمن المنعرج تحوّل النشاط الإرهابي في بلادنا من الاغتيالات والقتل الذي يستهدف أفرادا – باردو ونزل سوسة- إلى التفجير الذي يهدف إلى التّقتيل الجماعي باستهداف وسائل النقل أو المؤسّسات والفضاءات المكتظّة. إنّ المستهدف من العمليّة لم يكن أيّا كان، فهو الحرس الرّئاسي، نُخبة النُّخبة في القوّات الأمنيّة. بذلك يكون ما حدث منعرجا بكلّ المعايير، وبهذا يكون الإرهابيون قد بلّغوا رسائل عديدة في آن واحد. رسائل مفادها أنهم قادرون على توجيه الضّربات متى شاؤوا وأينما شاؤوا وضدّ أيّ هدف شاؤوا.
فرغم الاستنفار الأمني الحاصل بعد عملية المغيلة الغادرة، وبعد تتالي العمليات في سيناء وبيروت وباريس وباماكو، تواصل عصابات الإرهاب الأسود “النشاط” في واضحة النهار متحدّية الدولة والمجتمع. وهذا الأمر وجب أن يثير نقاشا حول حقيقة ما يجري. كما وجب تجاوز التّعاطي التقليدي مع العمليات والمتمثل في تنظيم منابر تلفزيّة صاخبة تتسابق على مضاعفة عدد المتفرّجين لأيام لتعود الأمور إلى سالف وتيرتها، ممّا أنتج نوعا من “التّطبيع التّدريجي مع الإرهاب” باعتباره في النهاية حدثا عارضا لا أكثر، وهو أخطر ما يمكن أن يصيب شعبنا في هذا الظرف الدقيق، لذلك آن أوان معالجة أخرى لموضوع الإرهاب.
التّصدّي للإرهاب مسؤوليّة جماعيّة:
لقد أثبتت تجارب مختلف البلدان والشعوب التي تعرّضت إلى طاعون الإرهاب أنّ اكتفاء الدولة وأجهزتها فقط بالتّعاطي مع موضوع الإرهاب يظلّ قاصرا وعاجزا عن التّصدّي النّاجع والفعّال للظّاهرة. صحيح أنّ أجهزة الدولة المختلفة تُلقَى عليها المسؤولية الأكبر، لكنّ دور المجتمع بفعاليّاته المنظّمة، أحزابا ونقابات وجمعيّات وأطر شعبيّة، يبقى ضروريّا، وحاسما.
فانخراط المجتمع يعني توسيع المعركة ومحاصرة العدو وإغلاق المنافذ أمامه، لأنّ أخطر ما يمكن للعدو تحقيقه هو فتح نوافذ واختراقات في جسم المجتمع، سواء عبر التّجنيد أو التّخويف أو شراء الذّمّة، والدّليل على ذلك العدد الكبير للخلايا التي وقع الكشف عنها والتي شملت كلّ جهات البلاد. وهو ما لم يسبق -حسب علمنا- لأيّ عمل منظّم أن حقّقه حتى زمن الحركة الوطنيّة، كما أنه لم يسبق لظاهرة منظّمة أن أثارت هذا الجدل من جهة حجم الاختراقات الحاصلة لأجهزة الدولة والمجتمع – جمعيات، عمل خيري، مساجد، شبكات تهريب…- فالدولة اكتفت بمدة وجيزة لفسخ آثار “مجموعة 1962” التي أرادت الانقلاب على حكم بورقيبة، كما أنها اكتفت بمدة زمنية محدودة لشطب آثار “حركة الاتجاه الإسلامي”- النهضة اليوم – سنوات 1987 وبداية التسعينات (المجموعة الأمنية) من أجهزة الدولة وخاصة الأمنية والعسكرية منها.
أمّا اليوم، فالوضع معقّد وسير الأحداث يطرح أكثر من سؤال بما فيها حول العمليّة الأخيرة للأسباب الذكورة سلفا. وفي هذا الصّدد، مازال ملفّ الأمن الموازي واختراق القضاء والسجون مفتوحا حتّى بعد إفادات أمنيّين، ومازال التّعاطي مع ملف الاغتيالات التي طالت سياسيّين (بلعيد والبراهمي) وأمنيّين يثير الرّيبة خاصّة من جهة إماطة اللّثام عن الأحداث المحيطة، وسماع المسؤولين المباشرين وتوجيه الاتهامات اللاّزمة ممّا حدا بهيئة الدّفاع عن الشهيد شكري بلعيد إلى تحويل القضية لأنظار المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشّعوب بحكم القناعة الجازمة بكون التّعاطي القضائي التونسي مخلّ إن لم يكن شيئا آخر.
إنّ توسيع المعركة يفترض توسيع المشاركة في التعاطي مع التحدي الإرهابي والعمل على تحويله الى شأن مجتمعي عام ينخرط فيه الجميع. فلا حياد مع الإرهاب. وتحقيق هذا الأمر يتطلّب إيجاد الأطر الكفيلة بذلك، وقد توافق لفيف واسع من التونسيين على ضرورة الدعوة إلى مؤتمر وطني للتصدي للإرهاب يكون إطارا لإعلان التّعبئة العامّة ضدّ الإرهاب والإرهابيّين، خصوصا وقد سبق أن وافقت الحكومة على ذلك وحدّدت له موعدا سبتمبر الماضي. لكنّ الضّغط الذي مارسته حركة النهضة أتى أكله بإلغاء المؤتمر ليتواصل التعاطي الأعرج مع القضية بحكم الارتهان للمصالح السياسوية لحليفي الحكم، رغم الوعود التي أطلقها نداء تونس حول تنظيم المؤتمر وحول كشف حقيقة الاغتيالات والأمن الموازي وتورّط “النّهضة” في الملف برمّته، وهاهي الوقائع تؤكّد زيف وعودهم للشّعب.
مؤتمر التّصدّي للإرهاب مهمّة عاجلة:
إن كانت مصالح النهضة والنداء تقتضي، للحفاظ على حلف الحكم، عدم الخوض في هذا الموضوع والاكتفاء بالمعالجة الأمنيّة والقضائيّة المحدودة، فإنّ اتّساع نطاق الإرهاب وتحدّيه الصارخ لأجهزة الدولة يفرض اليوم مراجعة هذا التّعاطي. إنّ تحالف القوى والطّبقات الرّجعيّة ليس معنيّا بالتّصدي للإرهاب. بل إنّه يقوم بتوظيفه في أحيان كثيرة، لعسكرة البلاد وتوسيع الاعتداء على الشعب وحرياته وفرض الإجراءات “المؤلمة” المُملاة من الدوائر المالية الخارجية.
إنّ تنامي النّشاط الإرهابي يفرض اليوم الإصرار على تنظيم المؤتمر الوطني للتصدي للإرهاب، حتى وإن قاطعته الحكومة، مؤتمر يقدّم قراءة دقيقة لأسباب الظاهرة وحقيقتها وارتباطاتها الداخليّة والإقليميّة والخارجية. ويكشف كامل الحقيقة حول الأمن الموازي واختراق الأجهزة و الاغتيالات وكلّ مظاهر الإخلال والتقصير والتّواطؤ الذي قامت به جهات رسمية أو حزبية. ويقدّم خريطة الإسناد المالي واللوجستي، بما فيها التي تهمّ الجمعيات المورّطة، ويطرح رؤية شاملة لكيفية المعالجة، في مختلف أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثّقافيّة والأمنيّة والقضائيّة والدبلوماسيّة والدينية.
هذا من شأنه أن يعطي إشارة انطلاق جديدة تحصّن بلادنا ومجتمعنا الذي آن الأوان كي يُدلي بدلوه وينتقل من حالة المتفرّج – المندّد إلى حالة الفاعل النشيط، ليس بلعب دور “المخبر”. وفي هذا الإطار، فإنّه لزاما علينا جميعا فتح جدل واسع في المجتمع، في الشارع والمدارس والمؤسسات، في المدن والأرياف، حول الظاهرة، لأنّ التحصين الفكري يبقى شرطا أساسيّا في هذه المعركة. ولذا يبقى دور القوى التقدمية، أحزابا ونقابات وجمعيات وفاعلين على مختلف الأصعدة محوريا وضروريا.
إنّ المعركة ضدّ الإرهاب هي معركتنا بمعيّة شعبنا، ولم ولن تكون معركة الرّجعيّين، ولا الأيادي المرتعشة. إنّها معركة شعب حرّ ناضل ومازال ضد الاستبداد والظلام.
(علي جلّولي: “صوت الشعب”- العدد 186)