مشروع ميزانية 2016 لم يختلف عن الميزانيات السابقة شكلا ومضمونا. نحن في وضع خاص ومن المفروض أن تحمل ميزانية الدولة رؤية جديدة أساسها العدالة الجبائية وتحسين موارد الدولة حتى تكون قادرة على تمويل مشاريع تنموية جدية تمكن من بعث حركية اقتصادية وتخفيف حدَة البطالة. ميزانية 2016 حافظت على نفس التوجهات السابقة المتمثلة أساسا في تهميش دور الدولة وإضعاف قدرتها على التدخل واللجوء المتزايد إلى التداين. سنقف هنا على بعض الإجراءات على سبيل الذكر لا الحصر.
أحد الإجراءات يتمثل في توسيع قاعدة الأداء على القيمة المضافة بتوظيف هذا الأداء على جملة من المواد. مثل هذا الإجراء يمكن الدولة من مداخيل إضافية (هزيلة في الواقع) ولكنه في نفس الوقت يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد المعنية، وبالتالي مزيد تدهور المقدرة الشرائية لعموم المواطنين. الحكومة لا تريد المس من مصالح الشرائح والطبقات الاجتماعية الغنية بالترفيع في الأداء على بعض المؤسسات أو مراجعة مقاييس الضريبة على الدخل وبالتالي يقع اللجوء إلى الأداء الغير مباشر مثل الأداء على القيمة المضافة. في النهاية، الشرائح الضعيفة والمتوسطة (الأجراء والموظفون خاصة) هي من يتحمل الجزء الأكبر من العبء الجبائي وهذا منافي تماما لمبدأ العدالة الجبائية.
إجراء أخر يتمثل في التخفيض في المعاليم الديوانية والحد من الأداءات على المواد المستوردة. هذا الإجراء قدَم تحت غطاء وضع حد لظاهرة التهريب والتجارة الموازية وهو في الواقع تلبية لمقترح تقدمت به منظمة الأعراف التي تسعى إلى الاستفادة من تواجد “الاقتصاد الموازي” أكثر مما تسعى إلى محاربته. بالإضافة إلى أنه يسبب خسائر للميزانية (نقص بحوالي 316 م.د) فهو لا يخدم إلا مصالح الرأسمال الأجنبي الذي يسعى إلى تحويل تونس (وبلدان أخرى) إلى مجرد مغازة لتصريف فوائضه. الخطير في الأمر أن التخفيض شمل العديد من المواد الغذائية والفلاحية وهو ما يهدد مباشرة القطاع ألفلاحي ويعرّضه إلى منافسة غير متوازنة. هذا الإجراء ليس في واقع الأمر إلا استباقا واستعدادا لاتفاقية التبادل الحر الكامل والمعمّق (ALECA) مع الاتحاد الأوروبي الذي يتضمن تحريرا كاملا للمبادلات التجارية الفلاحية.
في ميزانية 2016 تمّ التأكيد أيضا على مواصلة الإصلاحات القطاعية والهيكلية المتعلقة بالخصوص بإعادة هيكلة البنوك العمومية. وهو استكمال لما جاء في قانون المالية التكميلي لسنة 2015 (الفصلين 11 و12) الذي نصَ على التفويت في جزء من حصة الدولة في البنوك العمومية. طبعا الهدف النهائي هو خوصصة هذه البنوك وهو ضرب للسيادة الوطنية وإضعاف لدور الدولة في التدخل وتوجيه النشاط الاقتصادي.
عموما، غياب الإرادة الجدّية لمقاومة التهرّب الضريبي ومنح الامتيازات الجبائية تحت شعار تشجيع الاستثمار والتخفيض في المعاليم الديوانية ستؤدي الى تراجع موارد الدولة. من ناحية، هذا سيجبر الدولة على تخفيض نفقاتها وخاصة الاجتماعية والتنموية، ومن ناحية أخرى سيدفعها إلى مزيد من التداين الذي اتّخذ شكلا جديدا مع الصكوك الإسلامية.
بعض الإجراءات التي تضمّنها مشروع الميزانية تدعم الفساد:
الإجراء الأول يتعلق بتيسير اقتناء المساكن من قبل الفئات الوسطى بالتخفيض في كلفتها وذلك بتمكينهم من طرح أعباء القروض المتعلقة باقتناء المساكن. في ظاهره يبدو هذا الإجراء في صالح الفئات الوسطى ولكن الواقع مغاير لذلك تماما. كلنا نعرف الطفرة الهائلة التي شهدها قطاع البعث العقاري في السنوات الأخيرة والارتفاع المشط لأسعار المساكن نتيجة المضاربة التي جعلت الأسعار تتجاوز بشكل غير مقبول التكاليف الحقيقية لبناء المساكن (حسب بعض التقديرات إلى حدود 300 % من الكلفة الحقيقية). هذا أدى أيضا إلى ارتفاع أسعار مواد البناء وجعل من البناء الفردي مهمة شبه مستحيلة. هذا بالإضافة إلى أن قطاع البعث العقار شكّل مجالا خصبا للتهرب الضريبي وتبييض الفساد. هذه الطفرة بلغت ذروتها الآن مع تكاثر عدد البنايات الغير مباعة نتيجة لارتفاع الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية للفئات الوسطى.
الكثير يتحدث عن آلية السوق وقوانين العرض والطلب، فلماذا لا نترك هذه الآلية تشتغل؟ هذا سيؤدي إلى انخفاض أسعار المساكن إلى حدود معقولة وتصبح في متناول الفئات الوسطى دون الحاجة إلى التداين المجحف. أم أن آلية السوق التي تفنّن الكثيرون في تعداد محاسنها تصبح سيئة إذا كانت في صالح الفئات الوسطى.
هذا الإجراء لا يهدف في الواقع إلى مساعدة الفئات الوسطى. بل أن الهدف من ورائه المحافظة على أسعار المساكن في مستويات مرتفعة وبالتالي المحافظة على الأرباح الهائلة والغير مشروعة لرجال الأعمال الفاسدين الناشطين في مجال البعث العقاري.
الإجراء الثاني يخص قطاع السياحة وهو تواصل لما ورد في قانون المالية التكميلي 2015. يقر هذا الإجراءات امتيازات خاصة للنزل السياحية المتضرّرة من الأحداث الإرهابية (عملية سوسة خاصة) وتتمثل هذه الامتيازات في تكفل الدولة بمساهمة الأعراف في نظام الضمان الاجتماعي بعنوان الأجور المدفوعة بالنسبة للنزل التي تحافظ على عملتها. هذا الإجراء كانت قد أعلنت عليه وزيرة السياحة مباشرة بعد عملية سوسة.
الكل يعلم أن قطاع السياحة يعتمد أساسا على يد عاملة موسمية غير قارة ولا تتمتع بالتغطية الاجتماعية. مباشرة بعد عملية سوسة وإثر تصريح وزيرة السياحة قامت كل النزل تقريبا بتسريح العمال ولم تحافظ إلا على العمال القاريين وهم أقلية. هذه الأقلية تمثل الحد الأدنى للعمالة الذي تحافظ عليه المؤسسة في كل الحالات ولا يتأثر بالأزمة ولا بالإحداث الإرهابية. لا وجود إذن لمبرّر لتحمّل الدولة تكاليف الضمان الاجتماعي، وكان من المفروض ربط هذا الإجراء بالمحافظة على العمال الموسميّين.
كما تجدر الإشارة إلى أن الديون المتخلدة بذمة المؤسسات السياحية تبلغ 1400 م.د أي 82 % من جملة القروض الممنوحة للقطاع السياحي. فهل يعقل أن ندعم، على حساب ميزانية الدولة أي على حساب دافعي الضرائب، رجال أعمال يتهرّبون من تسديد ديونهم تجاه البنوك العمومية؟
أخيرا، إعلان وزيرة السياحة عن هذا الإجراء قبل صدوره في قانون المالية لم يكن إلا رسالة إلى المستثمرين في السياحة وهي من هذا المنطلق متواطئة مع دوائر الفساد في هذا القطاع.
مصطفى الجويلي:
عضو لجنة خبراء الجبهة الشعبيّة وعضو المكتب السياسي لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد.