كنّا تعرّضنا في العدد السابق من “صوت الشعب” إلى شعار “الوحدة الوطنية” وبيّنّا كيف أنه أصبح مجرّد شعار فارغ ترفعه القوى الرجعية على إثر كلّ عملية إرهابية أو أزمة سياسية للاستهلاك العام. كما بيّنّا الشروط الضرورية لقيام الوحدة الوطنية التي تحتاجها حقا البلاد في مثل الظرف الحالي الذي يواجه فيه الشعب مخاطر ومشاكل عدة وجوهرية. ونعود مرة أخرى إلى هذا الموضوع لتعميق بعض جوانبه وللتذكير ببعض مواقف الجبهة الشعبية منه في أكثر من مناسبة منذ تأسيسها في أكتوبر 2012 لنأتي في النهاية إلى الوضع الراهن ومقتضياته.
شيء من التاريخ
إنّ مفهوم الوحدة الوطنية ليس مفهوما مطلقا ولكنه ككل المفاهيم، تاريخي ونسبي، أي أنّ مضمونه يختلف من مرحلة تاريخية إلى أخرى، ومن طبقة اجتماعية إلى أخرى أيضا. وكما يمكن أن يكون لهذا المفهوم مضمون ثوري أو تقدمي في ظرف معيّن ولدى طبقة أو طبقات معينة، يمكن أن يكون له مضمون رجعي في ظرف آخر ولدى طبقة أو طبقات أخرى. وبالتالي فعند طرح هذا المفهوم لا بدّ من النّظر إلى الظرف أو المرحلة التي يُطرح فيها وإلى الطبقة أو الطبقات الاجتماعية التي تطرحه والمضامين التي تُعطيها له والأهداف التي تريد تحقيقها من خلاله.
ففي تونس مثلا طُرح شعار “الوحدة الوطنية” في أكثر من مرحلة تاريخية، وبمضامين وأهداف مختلفة أكسبتها تارة طابعا تقدميا وتارة أخرى طابعا رجعيا. ففي المرحلة الاستعمارية كانت الدعوة إلى الوحدة الوطنية شعارا سليما تقتضيه هذه المرحلة بهدف تجميع غالبية الطبقات والفئات الاجتماعية، وخاصة الشعبية منها، ضد المستعمر الفرنسي، باعتبارها متضررة منه وبالتالي، لها مصلحة، ولو بدرجات متفاوتة، في التحرر الوطني وفي وضع حد للهيمنة الاستعمارية. ولئن لم تتكرّس هذه الوحدة الوطنية في جبهة موحدة لغياب القيادة السياسية الواعية بذلك والقادرة عليه، فقد تمّت محاولات عدة لتجميع الصفوف وكان للمنظمة الشغيلة، بقيادة الزعيم الوطني والنقابي فرحات حشاد، دور بارز في ذلك.
وعلى إثر خروج المستعمر الفرنسي بفضل نضالات الشعب التونسي ووصول بورقيبة وحزبه، الحزب الحر الدستوري، إلى السلطة، طُرحت من جديد مسألة “الوحدة القومية”، كما كان يسميها بورقيبة. من منظور ضيق، ينفي البعد القومي العربي للشعب التونسي، ولكنّ هذه المرة بمضامين وأهداف مختلفة عن مرحلة الاستعمار، بل بمضامين رجعية. لقد استعمل بورقيبة شعار “الوحدة القومية” ركيزة من ركائز نظامه الدكتاتوري الذي يمثّل مصالح الأقليات البورجوازية الرجعية والعميلة والقائم على الحكم الفردي والحزب الواحد وسلطة البوليس، وبالتالي فقد كان الهدف من هذه “الوحدة القومية” فرض مصالح هذه الأقليات على الشعب وحرمانه من حريته وحقوقه ومن تكوين أي معارضة لها. وبما أنّ هذه الوحدة القومية كانت قالبا شكليا ورجعيا فسرعان ما انكسر تحت ضربات نضالات العمال ومختلف الطبقات والفئات الشعبية التي هبّت كلّها للدفاع عن مطالبها. كما تكونت معارضات عدة، سرّيّة وعلنيّة، لبورقيبة ونظامه مؤكّدة أنّ هذا النظام لا يمثّل سوى مصالح فئوية ضيّقة.
ولقد أعاد بن علي الذي انقلب على بورقيبة في عام 1987 طرح شعار “الوحدة الوطنية” بنفس المضمون الرجعي، لإخفاء الطابع الدكتاتوري البوليسي لنظامه. فقد أصبح كل نضال اجتماعي أو شعبي وكل معارضة سياسية بل كل انتقاد لنظام بن علي “ضربا للوحدة الوطنية” بل “خيانة للوطن” و”عمالة للأجنبي”. وبعبارة أخرى فإنّ “الوطنية” كان لها معنى واحد وهو الإذعان للدكتاتورية ولمصالح العائلات والأقليات الثرية التي تسندها والتي لا علاقة لها بالوطن لا من قريب ولا من بعيد. وكما كان الأمر في عهد بورقيبة، فقد تمرّد الشعب التونسي على وحدة بن علي الوطنية الشكلية والرجعية وبيّن أنّ مصالحه هي غير مصالحه. وقد واجه نظام بن علي نضالات الشعب التونسي بالقمع الهمجي ممّا أدّى إلى عزلته تدريجيا. وكانت ثورة الشعب التونسي في 17 ديسمبر 2011 أكبر تعبير عن الوحدة الوطنية لهذا الشعب في وجه مستغليه ومضطهديه. وقد كان للقوى الثورية والديمقراطية والتقدمية دور في تحقيق هذه الوحدة حتى وإن لم يؤطّرها تنظيم وطني. وكان شعار “شغل، حرية، كرامة وطنية” المضمون السياسي لتلك الوحدة.
ما بعد الثورة
ودون الخوض في مجريات الثورة التونسية والعوائق التي حالت دون تحقيق مهامها الأساسية إلى حدّ الآن بل واستمرار اختلال موازين القوى لفائدة القوى الرجعية، فتنبغي الإشارة إلى أنّ مختلف الائتلافات التي تعاقبت على الحكم منذ سقوط بن علي، ظلّت تتغنّى هي أيضا بالوحدة الوطنية في الوقت الذي كانت تنسفها في الواقع وتعمل من جديد على تكريس حكم رجعي، أقلّي، لا علاقة له بمصالح غالبيّة المجتمع الوطنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة.
لقد كان حكم محمد الغنوشي والباجي قائد السبسي في الفترة الانتقالية التي تلت خروج بن علي من البلاد استمرارا لسياسات نظامه الأساسية. ثم جاء حكم الترويكا إثر انتخابات أكتوبر 2011. وقد شكّل هذا الحكم، بزعامة حركة النهضة، أكبر خطر على وحدة الشعب التونسي. فقد عمل على تمزيق هذه الوحدة التي تحقّقت خلال الثورة حول مطالب الحرية والشغل والكرامة الوطنية، وتقسيم الشعب على أسس دينية، بين “مؤمنين” من جهة و”كفار” أو “علمانيين” من جهة أخرى، وذلك لحرف اهتمامه عن القضايا التي ثار من أجلها وتسهيل السيطرة عليه وتطويعه لمصالح الرجعية المحلية المرعوبة من الثورة وكذلك مصالح الرجعيات العربية الخليجية والقوى الاستعمارية التي لا تريد فقدان مصالحها في تونس. كما لا تريد أن تكون للثورة التونسي “عدوى” في المنطقة. وقد استعملت الترويكا أبشع الوسائل القمعية لمواجهة نضالات الشعب التونسي ومطالبه وخلقت المناخ الملائم لتطور الجماعات الإرهابية التي أرادتها في وقت من الأوقات احتياطيا لها لضرب معارضيها وخنق الحريات، وهو ما أدّى إلى فتح باب الاغتيالات السياسية من جديد والتي كانت الجبهة الشعبية ضحيتها الأولى باغتيال زعيمين من أبرز زعمائها، شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي.
وقد تصدّى الشعب التونسي من جديد لهذا المنحى الخطير الذي أرادته الترويكا لتونس وحقّق وحدته الوطنية ضدّها. لقد توحّد نساء تونس وشبابها ونقابيوها ومثقّفوها ومبدعوها ضد الترويكا. كما توحّدت معظم القوى السياسية، من الجبهة الشعبية إلى نداء تونس، والقوى المدنية من الاتحاد العام التونسي للشغل إلى اتحاد الصناعة والتجارة، ضد حركة النهضة وحلفائها، وفرضت عليهم حوارا وطنيا كان من نتائجه إسقاط دستورهم، دستور 1 جوان 2013 وتعويضه بدستور ديمقراطي نسبيا، وحكومتهم وتعويضها بحكومة لإعداد الانتخابات. وكان مضمون هذه الوحدة الوطنية التي جمّعت غالبية الطبقات والفئات الاجتماعية، تقدميا، معاديا للاستبداد والظلامية. ومن المعلوم أنّ الجبهة الشعبية كانت فاعلا أساسيا في تحقيقها، مثلما كانت في السابق فاعلا أساسيا في مقاومة كلّ محاولة لتمزيق وحدة الشعب التونسي، وسعت إلى إعادة بنائها على أسس وطنية وديمقراطية وتقدمية حقّا.
أما اليوم…
وبعد اعتلاء تحالف “النداء ـ النهضة” الحكم إثر انتخابات 2014 التشريعية والرئاسية، وتكرّرت، في ظل هذا الحكم، العمليات الإرهابية التي أودت بحياة العشرات من المدنيين والأمنيين والعسكريين، وتفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، ممّا أدّى إلى تواتر الاحتجاجات الشعبية والنقابية، لم يجد هذا التحالف بدّا من استغلال العملية الإرهابية الأخيرة التي ضربت أعوان الأمن الرئاسي، لرفع شعار “الوحدة الوطنية” لتغطية فشله في مواجهة الظاهرة الإرهابية بنجاعة، وفي إيجاد الحلول الملائمة للبطالة والتهميش والفقر والبؤس وتردي الخدمات الصحية والثقافية، ولخلق المناخ الملائم لفرض مزيد الإجراءات المؤلمة للطبقات والفئات الكادحة والشعبية والضاربة في العمق للسيادة الوطنية.
إنّ كل من استمع إلى خطاب الباجي قائد السبسي يوم الاثنين الماضي يدرك أنّ معنى “الوحدة الوطنية” لديه يتمثل في تنازل العمّال والأجراء عن حقهم في النضال من أجل تحسين ظروف عيشهم، والخضوع لاستغلال أرباب العمل وجشعهم الذي لا حدّ له. وإلاّ لماذا لم يحمّل منظمة الأعراف مسؤوليتها في احتقان الوضع الاجتماعي ولم يطالبها بتلبية المطالب الدنيا للنقابات التي لا ترتقي إلى مستوى تحسين المقدرة الشرائية لمنظوريها، بل إنها لا تتجاوز حدّ تعويض جزء قليل من تدهور هذه المقدرة الشرائية؟ ولماذا لم يطالب الحكومة بالإسراع بإنجاز مشاريع لفائدة الفئات والجهات المفقّرة والمهمّشة لتحصينها ضد الإرهاب؟ وإذا كان فعلا يريد وحدة وطنية ضدّ الإرهاب فلماذا لا تسرع حكومته بكشف الحقائق حول اغتيال شكري والحاج البراهمي؟ ولماذا تعطيل عقد المؤتمر الوطني ضدّ الإرهاب؟
أمّا حركة النهضة، حليفة “النداء”، فإنها لا تطرح مسألة الوحدة الوطنية إلاّ بغرض فرض الصمت على مسؤوليتها عمّا حصل زمن حكمها من جرائم على حساب الوطن والشعب. إنّ كلّ نقد يُوجَّه إليها لتحميلها المسؤولية عن تطوّر الإرهاب في ظل حكمها إلاّ واتّهمت صاحبه بأنه “ضد الوحدة الوطنية” وبأنه “يشقّ صفوف التونسيين”.
إنّ الوحدة الوطنية كما بيّنّا في المقال السابق ليست شعارا فارغا يُرفع لتحقيق أغراض رجعية، بل لها شروطها، وأهم هذه الشروط هو أن تستند إلى المصالح التي توحّد الشعب في مرحلة محدّدة. وفي مثل حال اليوم فإنّ تونس إذ تحتاج فعلا إلى وحدة وطنية، فإنّ هذه الوحدة لن تكون غير وحدة “كلّ قواها الحريصة على استقلال قرارها السيادي الاقتصادي والدبلوماسي والمتشبّثة باتّباع سياسة اقتصادية جديدة تتّجه نحو بناء قاعدة صلبة لاقتصاد منتج ومندمج وموجه إلى خدمة الشعب، والمساواة بين كلّ الجهات والفئات، ويوفّر الشغل والخدمات العامّة لها ويقضي بالتالي على البطالة وكلّ أسباب الفقر والبؤس، وحدة وطنية تجمع بين كلّ الأطراف التي لم تتورّط في زرع الإرهاب ورعايته وليست لها علاقة بالتهريب والفساد، وتنادي بإصلاح مؤسسات الدولة (…) وإعادة تنظيمها على أسس ديمقراطية. وحدة بين الأطراف التي تنادي بعقد المؤتمر الوطني لمكافحة الإرهاب (…). هذه هي الوحدة الوطنية التي تحتاجها بلادنا وشعبنا وليست وحدة الخطب والمزايدات اللفظية التي يركب موجتها أشد الناس تخريبا لتلك الوحدة وإضرارا بها”.
(الجيلاني الهمّامي: صوت الشعب – العدد 187)