تعرضت عديد مدن العالم مؤخّرا إلى اعتداءات إرهابية أودت بحياة مئات الأبرياء، أعادت إلى السّطح النّقاش حول العلاقة بين مقتضيات العمل الأمني واستحقاقات الحرية.
بيروت، باريس، تونس، باماكو… كانت جميعها مسرحا لعمليات إرهابية جبانة خلال شهر نوفمبر المنقضي، راح ضحيتها أعداد كبيرة من الأبرياء. هذه العمليات الإرهابية لم تكن هي الوحيدة بل لعلها هي التي حُظيت بقسط أوفر من التغطية الإعلامية، وكان للإجراءات التي اتخذتها مختلف الحكومات المعنية صدى في النقاشات التي احتضنتها مختلف وسائل الإعلام، خاصة منها المتعلقة بحالة الطوارئ المعلنة في تونس وفي فرنسا من قبل والتقييد الذي صاحبها على ممارسة الحريات.
فرنسا تطالب رسميا بالسماح لها بخرق معاهدات حقوق الإنسان
سارعت الحكومة الفرنسية باتخاذ عديد الإجراءات التي تحدّ من الحريات وتعطي صلاحيات لا محدودة لوزير الداخلية ولمختلف الأجهزة الأمنية التي أصبح من حقها القيام بالمداهمات، دون إذن قضائي وفرض الإقامة الجبرية على من تعتبرهم مشبوه فيهم ومنع التظاهر.
بل أكثر من ذلك، تقدّمت فرنسا بطلب رسمي للاتحاد الأوروبي للسماح لها بخرق بنود المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان في هذا الظرف الاستثنائي، حتى تتجنّب المثول أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. فالحكومة الفرنسية تعتبر نفسها مضطرّة للتّخلّي عن التزاماتها، لكنها تبقى مطالبة بتقديم تقرير واضح يبرّر طلبها ويشرح أسبابه. وفي هذه الحالة عليها إمّا أن تعلن الحرب رسميا أو أن تشرح ما هي طبيعة “الخطر الداهم” الذي ” يهدد “حياة الأمة”. وهو ما قامت به في رسالة مؤرخة بتاريخ 24 نوفمبر، والتي جاء فيها: “التهديد الإرهابي في فرنسا ذو طبيعة دائمة، وهو ما تؤكده تقارير أجهزة الاستخبارات وكذلك السياق الدولي […] هذه التدابير المطلوبة باتت لازمة لمنع ارتكاب المزيد من الهجمات الإرهابية. والبعض منها […] قد يُفهم على أنّ به مساس من التزاماتنا إزاء المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان”.
وفي هذا الإطار، لم تنتظر الحكومة الفرنسية ردّ المؤسسات الأوروبية بل شرعت في قمع جميع التحركات السلمية المندّدة بهذه الإجراءات ومنها المتعلقة بمطالب اجتماعيّة أو بيئيّة وفرضت الإقامة الجبريّة على مناضلين يصنّفهم البوليس الفرنسي كمنتمين لأقصى اليسار، ومنعت بعض المظاهرات بالقوّة وبإحالة أعداد كبيرة من المشاركين فيها على المحاكم.
المنظّمات المهنيّة تردّ بقوّة على قمع السّلطة
في ردّها على هذه الإجراءات، عبّرت منظمات عديدة، نقابية وسياسية، عن مخاوفها من أن تستغل الحكومة الفرنسية هذه الظروف الاستثنائية لفرض تقييدات على الحريات العامة وعلى النضال الاجتماعي المتنامي بسبب احتداد الأزمة الاقتصادية وإصرار الحكومة على المضيّ قدما في سياسات التقشف، التي تُثقل كاهل الطبقة العاملة والأجراء بشكل عام.
وفي هذا الإطار، أصدرت الكنفدرالية العامة للشغل، يوم 18 نوفمبر 2015، بيانا جاء فيه ما يلي: “… بُعيد هذه الأعمال الوحشية، تعود بسرعة خطب الحرب. إنّ الحرب لا تحل أي مشكل، بل على العكس. إنّ أماكن التوتر والصراعات تتزايد مع ما يصاحبها من الضحايا والدمار والخراب والكراهية. إنّ التدخلات العسكرية المتعددة (العراق، ليبيا، سوريا، وما إلى ذلك)، وبعيدا عن جلب الديمقراطية لهذه البلدان، لم تولّد سوى التفقير لمئات الآلاف من السكان ولم تؤدّ إلى غير الانكماش الاقتصادي والتقهقر الاجتماعي. وتلك هي التربة التي ينمو فيها الإرهاب، الذي يدفع بأعداد غفيرة من السكان على الطريق إلى المنافي القسرية”. ويضيف البيان: “إنّ إدخال أيّ تعديل على الدستور مهما كان لن يمكّننا من تجفيف منابع تمويل وتسليح الإرهابيين… كما ينبغي التأكيد على أنّ الدولة الفرنسية هي ثاني تاجر سلاح في العالم، متقدمة على روسيا والصين. ونحن نطالب بوقف كل تجارة الأسلحة مع الدول التي لديها صلات مع الإرهابيين. ونحن نطالب بإعطاء الأولوية للحلول متعددة الأطراف في إطار الأمم المتحدة”.
“نحن مذنبون لتهاوننا مع الملكيّات النّفطيّة الوهّابيّة التي تموّل صعود الجماعات الإرهابيّة الأصولية”
وفي السياق ذاته، قالت إيفا جولي، النائبة بالبرلمان الأوروبي على حركة الخضر والمرشّحة لرئاسية 2012، “أخشى الدوامة التي يريد داعش أن يقودنا إليها. إنّ استراتيجية الإرهابيين هي توليد خوف دائم ومستمر وتقييد مساحات الحرية. والخطر هو الوقوع في فخّهم هذا، واعتبار الديمقراطية كنقطة ضعف بينما هي على العكس من ذلك حصننا المنيع، لأنها هي النظام الوحيد الذي يحمي في نفس الوقت الأمن والحرية، وينظّم التعايش بين القيم والثقافات المختلفة، ولأنّ الديمقراطية تفترض أنّ الحقوق الفردية غير قابلة للتصرف. يجب أن أعترف أنّ التهديد الإرهابي هو على الفور أخطر من الانتهاكات الملموسة للحرية… يجب أن ندير معا المعركة ضد الإرهابيين الذين تعهدوا بتدميرنا، وملازمة اليقظة ضد إغراء المراقبة المعممة، التي أصبحت ممكنة بفضل ما تتيحه التكنولوجيا للدول من وسائل جديدة.”
وفي إجابتها عن سؤال حول مضاعفة الضربات الجوية في سوريا والعراق كردّ عن العمليات الإرهابية، أوضحت أنّه “هناك اعتقاد واهم أنّ الحل يمكن أن يكون عسكريا فقط. أنا لا أتمنّى أن تكون الضربات تخفي الحاجة إلى سياسة أخرى، فعلى سبيل المثال لا يمكن أن تكون الرغبة المفرطة في تحقيق فائض في الميزان التجاري مهما كان الثمن، بوصلتنا في تحديد سياستنا الخارجية ونحن مذنبون لتهاوننا مع الملكيات النفطية الوهابيّة التي تموّل صعود الجماعات الإرهابية الأصولية، عاجلا أم آجلا، وعلينا بتغيير هذه السياسات.
صوت الشّعب/ العدد 187
الجامعي والناشط الحقوقي مرتضى العبيدي