انطلقت يوم الخميس 26 نوفمبر 2015 أعمال مجلس نواب الشعب بالاستماع إلى بيان الحكومة الذي قدمه رئيسها. وكانت لجنة المالية والتخطيط في المجلس قد أنهت أشغالها وعرضت إثر خطاب رئيس الحكومة موجز تقريرها أيضا. وقد ارتأت اللجنة أن يقع إثر نقاش الميزان الاقتصادي التداول في ميزانية كل وزارة على حدة ليختتم النقاش بالمصادقة على قانون المالية في أجل لا يتعدى يوم 10 ديسمبر تطابقا مع الآجال المنصوص عليها في الدستور.
وبعد الاطّلاع على فحوى خطاب رئيس الحكومة وعلى ميزانيات بعض الوزارات التي تمت المصادقة عليها نقدم في ما يلي جملة من الملاحظات حول ميزانية السنة القادمة من حيث ما جاء فيها من برامج وتوقّعات ومن حيث المنهجيّة المتّبعة في وضعها لنحكم عليها ما إذا كانت ترتقي إلى مواجهة رهانات المرحلة من جهة وإلى تحقيق تطلعات الشعب والبلاد من جهة أخرى.
من النّاحية المنهجيّة والشّكليّة:
إنّ سنة 2016 هي نظريا سنة انطلاق مخطط التنمية الجديد 2016 – 2020، ومن المفروض أن تشرع ميزانية هذه السنة وقانون المالية في تطبيق توجّهاته وتحقيق أهدافه. غير أنه وبما أنّ المخطط الجديد مازال في طور النقاش في لجان التنمية الجهوية والمحلية، ولم يتسنّ بعد إعداد وثيقته النهائية. لذلك من الخطإ بمكان القول إنّ ميزانية سنة 2016 جاءت لتكرّس اختيارات هذا المخطط أو لتحقق أهدافه. وما تردّد في خطاب رئيس الحكومة وبعض الوزراء من أنّ ميزانية سنة 2016 تستند إلى الوثيقة التوجيهية وبالتالي غلى المخطط ليس غير مغالطة للرأي لأنه وبإجماع الجميع تقريبا لم تشكّل هذه الوثيقة مرجعا كافيا ولم تحتو على توجّهات حقيقيّة وأهداف دقيقة يمكن الارتكاز عليها لوضع ميزانية الدولة لسنة كاملة.
وعلى هذا الأساس نستطيع القول إنّ هذه الميزانية هي استمرار في نفس التوجهات العامة التي سارت عليها حكومة الصيد طيلة سنة 2015، وهي توجهات واختيارات موروثة لا فقط عن حكومة مهدي جمعة وحكومات الترويكا السابقة وإنما هي موروثة عن توجهات وخيارات بن علي.
وعلى خلاف ما جاء في نص وثيقة الميزانية فإنّها ظلّت وفيّة في جوانبها الفنية والهيكلية، أي التبويب والهيكلة والتنظيم، خاضعة إلى مقتضيات القانون الأساسي للميزانية العامة للدولة الذي يعود تاريخه لسنة 1967، ولم نلمس فيها إلاّ نادرا أثرا ” للميزانية حسب الأهداف” هذا النمط الجديد المزمع اتّباعه عند وضع ميزانية الدولة.
ومن جهة أخرى فقد تضمنت هذه الميزانية جملة من التناقضات يصعب تحديدها، كميزانية تقشّفيّة أم ميزانية توسّعيّة، بما أنها من جهة نصت على جملة من الإجراءات التقشفية خاصة ما يتعلّق بتقليص الانتدابات، 15800 فقط، وما جاء في الفصل 18 من قانون المالية الخاص بتأجيل العمل بتعميم إعفاء شريحة الدخل التي لا تتجاوز 5000 دينار على كلّ الأشخاص الطبيعيين أو أيضا ما يتعلق بمحدودية الاعتمادات الجديدة لميزان التنمية (2800 مليون دينار من جملة 5401 مليون دينار).
لكن ومن الجانب الآخر فقد أقرّت الميزانية الجديدة على اعتبارات وتوقّعات متفائلة وعددا من الإجراءات لتبدو وكأنها ميزانية توسّعيّة وميزانية انعاش اقتصادي، نذكر من جملة هذه التوقعات القول بتحقيق نسبة نمو بـ2.5% في ظرف اقتصادي منكمش وفي ظلّ صعوبة مناخ الاستثمار الخارجي والداخلي نظرا لتقلّب الأوضاع الأمنية المحلية والاقليمية. ومن الإجراءات التوسعية أيضا رصد اعتمادات هامة للزيادة في الأجور، الدفعة الثانية سنة 2016، فضلا عن تقديم تسهيلات جبائية وديوانية (0% على الواردات المصنّعة ونصف المصنّعة و20% على المواد الاستهلاكية الأساسية غير الفلاحية) والتخفيض في نسبة الخصم من المورد بعنوان الأداء على القيمة المضافة من 50 إلى 25% وغيرها من الإجراءات.
ميزانيّة إعادة إنتاج القديم:
تتّجه الميزانية الجديدة في مجمل اختياراتها وأهدافها نفس الاتّجاه الذي سارت عليه منذ عقود على الأقل في ثلاث محاور كبرى هي الاقتراض والتنمية والتشغيل. لقد جاء فيها أنّ الدولة ستعوّل مرّة أخرى على تعبئة 6500 مليون دينار كقروض محلية وأجنبية لتمويل مصاريف التصرف والتنمية. وعلاوة على أنه من غير المضمون أن نتوصّل إلى الحصول على هذه القيمة بما يرجّح أن تكون نسبة عجز الميزانية أكبر ممّا جاء في التّوقّعات (3.9%).
وحتى لو افترضنا جدلا تحقيق هذا الهدف فإننا في الجهة المقابلة سنشهد ارتفاع نسبة الدّين من الناتج الداخلي الخام التي هي الآن بالأرقام الرسمية 54%. ومعلوم أنّ الاقتراض الذي تصرّ الدولة على التعويل عليه كمصدر أساسي لتمويل خزينتها بات يشكّل من مدّة أحد أهمّ عوائق التنمية في بلادنا فضلا عن تهديده الجدّي لهيكلة الاقتصاد الوطني وإنتاجيّته (القروض من السوق المالية العالمية) واستقلالية القرار الوطني، بما أنّ الكثير من القروض خاصة من قبل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي كثيرا ما كانت مقترنة بإملاءات حول كيفية توضيفها ومشروطة بإصلاحات لا تتماشى بالضرورة مع واقع البلاد ومصلحتها.
ما من شكّ أنّ الدولة في ضوء محدوديّة الموارد الداخلية الحالية تجد نفسها مضطرّة إلى التداين. ولكن هذه المحدودية ليست قدرا محتوما بقدر ما هي نتاج اختيارات تصرّ على اتّباعها. فالدولة هي المسؤول الأول، إن لم تكن الوحيد، عن التهرب الجبائي والغش وعن تفاقم حجم الاقتصاد الموازي. وطالما استمرّت في تردّدها وتهرّبها من القيام بإصلاح جبائي فإنها ستتكبّد كلّ سنة خسارة لا تقلّ عن 7000 مليون دينار كان من الممكن تعبئتها بدلا عن اللجوء إلى الحلول السهلة والمضرّة أي الاقتراض.
كما تتجه الميزانية الجديدة إلى تأمين مصاريف التصرف (أجور ونفقات التسيير والدعم وإن تراجعت الاعتمادات لهذا الباب بشكل ملحوظ من أكثر من 5000 مليون دينار إلى 2612 مليون دينار فقط) وذلك على حساب نفقات التنمية أولا، عدا ما يتصل ببعض مشاريع البنية الأساسية وعلى حساب التشغيل ثانيا.
رصدت الميزانية الجديدة 5401 مليون دينار للتنمية أكثر من نصفها هي اعتمادات مؤجّلة، 54%، لمشاريع معطّلة أو هي بصدد الإنجاز، ما يعني أنّ 46% فقط أي 2484 مليون دينار كاعتمادات جديدة للتنمية. وتستأثر مشاريع البنية الأساسية بـ41% من مجموع ميزانية التنمية، بينما لم يخصّص للتنمية الجهوية سوى 12% فقط أي 648 مليون دينار. وهو ما يعني التضحية بالمشاريع المنتجة وبالمشاريع الجهوية. بطبيعة الحال مثل هذا التّوجّه غير كفيل بتأمين أسباب خلق الثروة وتوفير مستلزمات العيش لعموم المواطنين ممّا سيضطرّ الدولة من جهة أخرى إلى الاستيراد. ومعلوم أنّ ميزانية الدولة تتكبّد مصاريف كبرى لتغطية واردات قائمة كبيرة من المواد انطلاقا من مواد الاستهلاك (الحبوب) وصولا إلى المحروقات والمواد المصنّعة.
كما أنّ هذا التّوجّه غير كفيل بتوفير فرص الشغل في الوقت الذي نعلم جميعا الكلفة الاقتصادية والاجتماعية لنسبة بطالة تزيد عن الـ15% مرشحة لأن تزداد ارتفاعا مع موفّى سنة 2016. جاء في مشروع الحكومة أنّ الانتدابات في الوظيفة العمومية للسنة القادمة لن تزيد عن 15800 الغالبية العظمى منهم لتسديد شغورات ستحصل بسبب إحالة 14000 موظف تقريبا على التقاعد. ذلك ما يعني أنّ الإحداثات الجديدة لمواطن الشغل لا تتعدّى ألفي موطن. وإلى جانب ذلك فمن ضمن هذا العدد سيخصص 11 ألف منهم للجيش (6500) وأكثر من 5000 لوزارة الداخلية.
لا شك أيضا أنّ الوظيفة العمومية لم تعد تحتمل زيادة في عدد العاملين بها. ولكن وفي المقابل من ذلك حينما تتخلى الدولة عن دورها في بعث المؤسسات العمومية الإنتاجية في وقت يستنكف المستثمرون الأجانب والمحليون على حد السواء عن المخاطرة ببعث مشاريع منتجة ومشغّلة، ويميل المحلّيّون منهم أكثر إلى القطاعات المربحة والتي لا تتطلب تمويلات كبرى أو إلى القطاع الموازي بما في ذلك التهريب فمن سيعالج معظلة البطالة؟ ومن سيتكفّل بمئات الآلاف من العاطلين؟ وهل تعتقد الحكومة أنّ منح العائلات المعوزة وما إلى ذلك من الإجراءات المهينة هي الكفيلة بمعالجة الملف الاجتماعي المحتقن؟
إجراءات جبائيّة وديوانيّة جزئيّة منقوصة:
غير أنّ مضمون الإجراءات المنصوص عليها لا تعكس عمقها الحقيقي وتظل مجرّد إجراءات جزئية لأنها لم تتّخذ بعدها الحقيقي لا في إصلاح منظومة الجباية ولا في مقاومة التهرب ولا في إصلاح الديوانة ومقاومة التهريب والفساد. ولعل أبرز هذه الإجراءات هو ما جاء في الفصل 12 الخاص بمراجعة النظام التقديري وتبسيطه وحصر مستحقّيه في ثلاثة أصناف كبرى:
– ذوي الدخل الذي لا يتجاوز عشرة آلاف دينار سنويا (75 دينار للمنتصبين خارج المنطقة البلدية و150 دينار للمنتصبين داخل منطقة بلدية)
– ذوي الدخل الذي يتراوح بين 10 و100 ألف دينار سنوي 3% على رقم المعاملات وتتم مراجعة الانتفاع بهذا النظام كل ثلاث سنوات.
– ذوي الدخل السنوي الذي يزيد عن 100 ألف دينار يحالون على النظام الحقيقي.
ويمثّل هذا الإجراء خطوة هامة باتجاه مراجعة النظام التقديري الذي كان ولسنوات مجالا للتهرب الجبائي لعدد من المهن.
وضمن الإجراءات الجبائية الأخرى التي تعدّ إجراءات إيجابية هو توسيع قاعدة الضريبة على الدخل لتشمل المداخيل المتأتّية من ألعاب الرّهان في وسائل الإعلام.
في اتجاه معاكس وقع التراجع في قرار إعفاء أصحاب الدخل السنوي الضعيف دون 5000 دينار الذي أقرّه قانون المالية التكميلي لسنة 2015 ووقع بمقتضى الفصل 18 من مشروع قانون المالية الجديد تأجيل موعد تطبيقه وهو ما سيشكّل ضغطا جبائيا كبيرا على هذه الشريحة من الأجراء رغم محدودية دخلهم (حوالي 400 شهريا).
أمّا الإجراءات العملية لمحاصرة عمليات التهرب الجبائي من قبيل تفعيل الفاتورة الالكترونية ومذكرات الأتعاب للمهن غير التجارية ومسك دفاتر مرقمة ومؤشر عليها فتبقى حظوظ النجاح في تنفيذها مشكوك فيها تحت ضغط التكتلات المهنية المعنية بها (الأطباء مثلا).
وبخصوص الإصلاح الديواني ومقاومة التهريب والتجارة الموازية فإنّ قرار تبسيط المعاليم الديوانية على المواد المورّدة في نسبتين (0% بالنسبة إلى المواد المصنّعة ونصف المصنعة و20% بالنسبة إلى المواد الاستهلاكية عدا المواد الفلاحية حتى انتهاء المفاوضات بين تونس من جهة والاتحاد الأوروبي والمنظمة العالمية للتجارة) الذي تمّ تبريره بمساعدة المؤسسات الصناعية والإنتاجية من التسهيلات اللاّزمة لمساعدتها على الاستمرار قرار من شأنه أن يفقد الدولة نسبة هامة من المداخيل الديوانية علاوة على صعوبة القضاء على تهريب المواد من هذا الصنف بالذات (ومثال التفاح الأحمر خير دليل على ذلك).
ودون الدخول في تفاصيل هذه الإجراءات الجبائية والديوانية فإنّ ما يمكن قوله أنّ الحكومة ما تزال تتّبع سياسة متردّدة في معالجة معضلة التهرب الجبائي والتجارة الموازية رغم ما يسبّبه الأول (التهرب الجبائي) من خسائر لخزينتها ورغم ما تلحقه الثانية (التجارة الموازية) من أضرار للنشاط الاقتصادي الوطني المنظّم.
نفس الخيارات.. نفس النّتائج:
إنّ الاستمرار في نفس الخيارات المتّبعة منذ عهد بن علي والتي أدّت بالبلاد إلى أزمة اقتصادية خانقة وصلت اليوم إلى حالة من الانكماش تقرّ به الحكومة وكلّ الخبراء بما ذلك أولئك الذين يملؤون صفحات الجرائد وشاشات التلفزات ضوضاء وديماغوجيا حول فرص الإنقاذ، سيزيد في تعميق هذه الأزمة وسيكون المنطلق الحقيقي لانفجار اجتماعي تتّسع كلّ يوم أكثر مؤشّرات اندلاعه. والتعويل على المعالجات الجزئية والتقنية لن تضمن التحكم في هذا الغضب لفترة طويلة. وكما قال وزير المالية الحالية فإنّ البلاد مهددة بعاصفة قد تتحوّل إلى إعصار.
لكن لا يبدو أنّ الحكومة الحالية ومن ورائها الائتلاف الحاكم يتّعظ من التاريخ ولا يكترث بما يعتمل في المجتمع من غليان رغم حالة السكون الظاهرية.
حذار حذار فتحت الرماد اللهيب.
الجيلاني الهمّامي: عضو مجلس الشعب عن الجبهة الشعبيّة
“صوت الشعب”: العدد 187