يعيش المثقف في ربوعنا اليوم حال التيه والمخاض في ظل تباين الايديولوجيات الساعية كل منها الى طرح البديل المنقذ لبناء صرح حضاري تراكمت امامه الهزائم واختلط الحابل بالنابل.
فلكل جيل عربي هزيمته ابتداء من حرب ثمانية وأربعين وصولا الى سقوط بغداد عام الفين وثلاثة. يقع كل هذا في ظل عولمة استحكمت حلقاتها. وبالرغم من الحراك الثوري وما صاحبه من امل في بلوغ حلم الحرية والتوزيع العادل للثروة وبناء كرامة الانسان. لم يهنأ الجميع امام انقسام النخب السياسية والمذاهب الدينية وارتفاع سقف المطالبة بالحقوق، مما ولد ضغطا اضافيا امام كل سلطة حاكمة بعد الثورة ولم يعد أمامها، إما تقديم الحلول العاجلة والحسم في كل مسألة عالقة أو الرحيل.
لكن لسائل أن يسأل، متى نجحت ثورة لا تقوم على مشروع فكري خلاق يحفظ كرامة الانسان ويبني عقول الناشئة؟ يمكن أن تكون الاجابة بسيطة كالقول، اذن يجب الاهتمام بالثقافة وإصلاح التعليم. فلا مفر من الوقوف أمام معضلة هذا الطرح الشفاف السابح في التعميم.. اذ لا يمكن إرساء أي بعد ثقافي دون أن تكون هناك رؤية حضارية ذات عمق فكري أو فلسفي عميق يؤسّس لجملة من المعاني أو المقاصد .. قيم الخير والحق والعدل والجمال والحرية..
كما ان اصلاح التعليم لا يمكن أن تكون له جدوى دون التزام أخلاقي للإعلام في مؤازرة هذا المشروع، حيث نرى اليوم في تونس على سبيل المثال الاهتمام المفرط بحدث رياضي أو غنائي أكبر ألف مرة من أي حدث ثقافي .. ولعل أهم الإشكالات في هذا الموضوع تبرز بأكثر جلاء عندما نتحدث عن القائمين على الشأن الثقافي من أكاديميين ومبدعين وغيرهم.. هل نحمّل النوايا أكثر مما تحتمل لنقول أن كثيرا من جهودهم لا يخرج عن كونه حرث في الماء واستغلال للمواقع لا غير؟ ام أن تصحّر الاهتمام بالفعل الثقافي وانسداد الأفق وعزوف رؤوس الأموال عن دعم الثقافة هو أصل الداء؟ ربما شيء من هذا وذاك ..
لكن لا يمكن أن نغفل أن الكثير من الأكادميين المثقفين اختاروا الإنزواء في أبراج عاجية وتركوا الساحة لغيرهم من المبدعين أو الهواة أو المتمعّشين على حساب الإبداع والذائقة وبناء العقل.. وقد يتكرم بعض الأكاديميين ويبسط رؤيته للخروج من حال التخبط الحضاري التي نعيشها فنسمع لغة نخبوية تنبهر بتبنّي إحدى الأطروحات الغربية في علم الاجتماع أو الادب أو الفلسفة مشفوعة بنرجسية تعلو على عقول لا تفهم وتقطع مع البساطة والايجاز والمصالحة مع التاريخ وطبيعة المجتمع ..المطلوب رؤية دأبها تواضع سقراط ودقة ابن خلون وشجاعة غاندي.
تونس بلد صغير لا يحتمل تناطح الايديولوجيات واختبار فاعلية إحداها على حساب الأخرى. يمكن التوجه إلى بناء العقل المنفتح والمتنوع. فعوض تقسيم المجتمع إلى فئات متناحرة ثقافويا ومذهبيا وسياسيا، ينصبّ التركيز على بناء الفرد المتوازن الحامل لمختلف الرؤى الايديولوجية على تناقضها واعتبارها محصلة لتجارب انسانية غايتها صالح الانسان وهي في نهاية المطاف عمل بشري ونسبي قابل للتعديل والتطوير والتفاعل و لا يعدو ان يكون اختلافها ظاهريا اما في عمقه فهو تنوع مثمر وجدلية حياة متوثبة.
هذا لن يتم إلا بترك التمترس دون فهم الاخر واستثمار السطحية وبلاهة العوام وركوب التنظير الاجوف والتبرج امام الغرب واستنباط القوانين الخانقة لكل حس ابداعي او حرية بتعلة ما. مازلنا نتكلم عن حقوق الانسان في حين بلغت شعوب اخرى متقدمة كرامة الانسان. نتكلم عن ارساء النظام والعدل وغيرنا تجاوز كل ذلك الى مفهوم التنظيم والعدالة.
إن البناء لا يكون إلا من الاسفل الى الاعلى. اعني التعليم وبث روح المثابرة والعمل والتواضع والاحترام وحب الناس. هناك في اليابان يدرس الأطفال مادة حول السلوك الحضاري في المدرسة. لا يدرسونها نظريا فحسب بل تطبيقا وواقعا. حتى إذا بلغ الطفل مرحلة الشباب يتوّج معارفه بما يغني عقله وقلبه، ويمتلك شخصية غير مرَضية شخصية مبنية على احترام نفسه قبل كل شيء واحترام الآخر، شخصية تزخر بالحياء الحضاري والعطاء دون مقابل محبة للحياة والوطن. أما قدرنا فما زال متشبثا بنظرية رثة ومتوارثة قوامها أنه يمكن إسعاد البعض ولكن على حساب البعض الآخر، وضرب طرفي المعادلة في اي مجال بعضهما البعض. وعلى سبيل المثال يتصور بعض السياسيين لدينا، حين يسقطون في شرك المزايدات، أن المرأة لن تعيش الحرية والسعادة إلا بقوانين تكسر عظام الرجل أو أن التلميذ هو الاصل والمربي لا يساوي شيئا. أو أن المواطن هو الملك والموظف عبد بين يديه. والحق أنه لا فرق بين هذا وذاك إذا كان الجميع يعي قيمة دوره ومسؤوليته.
لم أر مسؤولا سياسيا منذ عقود حل في منصبه وقال. يسمح بكذا او كذا… بل يسارع إلى تعليق لافتة أو منشور يمنع فيه ما كان مسموحا وحسب درايتي المتواضعة في علم النفس فالمنع اذا كان اعتباطيا سلوك يبطن رغبة في السيطرة وإغراق الآخر. وتزداد المشكلة تعقيدا اذا أقبل المولعون بالمنع ومطاردة الضمائر والقلوب على اكتساح الساحة الثقافية وسيطروا على معاقلها بسفسطائية عصرية، وانسحب المبدع الحقيقي تاركا الساحة لكل من هب ودب.
لا يمكن بلوغ الحلم وتحقيق الرهانات سوى بعزيمة صادقة وغير معاندة في تقبل النقد المساعد على التصويب والنصيحة. نحن نصنف عالميا من الشعوب الحزينة. ويمكن ان تقيم عرسا الف مرة وترقص الاجساد من طرب لكن شفاء الروح والحس ممكن إذا تأسس العدل والحرية في معانيهما البسيطة الواعية في كل المجالات والمعاملات، ثقافة تسهر على نشرها دور العلم والإعلام، وممكن إذا تواضع الكبار وطلّقوا عقلية شيخ القبيلة العارف بكل شيء وفتحوا الباب أمام الشباب فعلا لا قولا، ليلتقوا ويعبروا عن تطلعاتهم ويختلفوا دون تخوين او مشاحنة على أتفه الأشياء قضية الثقافة لا يمكن معالجتها بفرض القوانين ودهن الجدران واستعراض الحشود لبعض الوقت وإنما بالتربية على الحس الإنساني المستلهم لأجمل القيم الرائعة لدى البشرية بما فيها قيمنا من كرم وعفة ووفاء وشهامة وإيباء. هي حبر الآن في أغلبها تردّدها الأفواه دون فعل متى تصبح ممارسة؟
من أجمل الأقوال المأثورة ما قيل “كن إنسانا وافعل ما شئت”.. مهمة الثقافة ومن ورائها السياسة أن تحوّل الفرد إلى إنسان، والقطيع إلى سمفونية اجتماعية حرة ومتناغمة رغم اختلافها.
حسين الجبيلي