سؤال بقدر أهمّيته البالغة، العاجلة والآجلة، غاب غيابا رهيبا عن ثورتنا التّونسية، التي فاجأتنا بعد أن يئسنا من إمكانيّة التّفكير حتّى في التّغيير الجزئي لما آل إليه وضعنا الثّقافي في السّنوات التي حكم فيها الطّاغية الجاهل بمساعدة زبانيّته في مواقع القرار الثّقافي.
الثقافة بمعناها الإبداعي لا بمعناها الاستهلاكي كانت شبه غائبة رغم جهود المبدعين في مجالات عديدة. وكان غيابها متمثّلا أساسا في غياب فعلها في محيطنا التونسي طبيعة وبشرا. إذ لم يتغيّر هذا المحيط تغيّرا إيجابيّا. وبقي المبدعون منعزلين عن الفعل الحقيقي، وبقي الحوار دائرا بينهم إلى حدّ ما ولا يهمّ غالبيّة المواطنين إلّا في كون ما يقدّمونه ترفيها ونشاطا خارج إطار التنمية الحقيقيّة، تنمية المحيط وتنمية العقول والملكات الإدراكيّة لتكون بدورها فاعلة ومحقّقة لذاتها. أي أنّ النّشاط الإبداعي لم يحقّق المواطنة المبدعة وهذا لعمري دور الفنّ أو لا يكون. فالفنّ ليس تعبيرا بقدر ما هو إبداع والفنّان غايته الأساسيّة هو الإبداع، الإبداع الفاعل الذي يغيّر ويطوّر وينمّي.
ودون الوصول إلى هذه الغاية فإنّه يبقى هامشيّا يرضي بعض الملكات الباحثة عن بعض المتعة في الفرجة والإحساس بما توفّره من تأثير.
المثقّف الموظّف
لا أحد يمكن أن ينكر أنّه منذ بداية الاستقلال كانت لوزارة الثقافة أي الجهة أو المؤسّسة المسؤولة عن صورة تونس الإبداعيّة وجود. ومنذ العهد البورقيبي كانت هذه الوزارة تعمل وتدعّم بعض المبدعين المختارين حسب مقاييس معيّنة حتّى أصبحت لنا أسماء “تاريخيّة” حسب المقاييس المحليّة طبعا، في ميادين الشعر والقصّة والرواية والموسيقى والمسرح والسينما والفنون التشكيليّة – وأذكر هذه الأخيرة في المستوى الأخير لأنّها مازالت كذلك رغم كثافة الإنتاج فيها ورغم عديد الأسماء التي حاولت أن تطوّر خطابها في مجالها ولكنّها لحدّ الآن مازالت تكاد تكون غائبة إعلاميّا وعديمة التأثير مجتمعيّا، وذلك رغم وجود أكثر من خمسة عشر مؤسّسة جامعيّة تلقّن أصولها وتقنياتها وإشكاليّاتها وكما تدلّ مناظرة الكاباس على وجود أكثر من خمسة آلاف محرز على الأستاذيّة فيها، إضافة إلى الذين يعملون في المؤسّسات التربوية والجامعيّة -.
لا تخلو بلادنا من مبدعين في هذه المجالات وفي غيرها. ولكن ماذا كان دورهم؟. لقد كانوا يعملون كموظّفين في دواليب الدولة العامّة أو كانوا أصحاب شبه مؤسّسات خاصّة، ويقتصر دورهم في إنتاج إبداعات مدعّمة في كثير من الأحيان من طرف ميزانيّة الشعب أو أنّهم يتنازلون للعمل في ميادين أخرى ليوفّروا لأنفسهم وسائل العيش الكريم.
غياب المقاييس القيميّة والنّقديّة
وبالمقارنة بالمنظومة التي يعمل فيها المبدعون في الدول المتقدّمة التي اندمجت والمنظومة الاجتماعية سياسة واقتصادا وأصبحت منظومة استثمار داخلي وخارجي، كنّا نحن في تونس في شبه منظومة مقطوعة الأوصال ومتفكّكة. وبالتالي اختلط فيها الحابل بالنابل وغابت عنها المقاييس القيميّة والنقديّة لدرجة أنّها لم تعد تهمّ الشعب في غالبيّته بل قلّة من المتتبّعين للأفكار التي تفرزها وتقترحها. لذلك وفي آخر أيّام النظام البائد أصبح الكلّ في ميدانه يتحدّث عن أزمة، أزمة الكتاب، أزمة المسرح، أزمة السينما، أزمة الموسيقى وأزمة الفنون التشكيليّة وهي أزمات هيكليّة أدّت إلى أزمات إبداعيّة. ولم يعد لتونس، سوى مهرجانات كرنفاليّة، يسعى من خلالها المبدعون إلى الحصول على حقّهم في عيش كريم يليق بهم كمواطنين. وهنا برز مفهوم تهميش المبدع، في حين أنّه أطلق في بداية السابع من نوفمبر لا لتهميش الثقافة ولا لثقافة التهميش. هذا الشعار الذي التقفه بن علي ليكون دعاية لنظامه الثقافي.
ولكن ورغم الأزمات يجب أن لا ننكر أنّ المبدعين في بلدنا قد حاولوا إنتاج ما قدروا عليه وكانت لنا إبداعات أثبتت قيمتها على المستوى المحلّي والعربي والعالمي. ولكنّها إبداعات بقيت حبيسة الأطر الضيّقة ولم تفعل فعلها في تونس وفي محيطها البشري والطبيعي، أقصد البلاد التونسية من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها.
وها نحن نستفيق لنلاحظ أنّ الثقافة في مفهومها العام كانت على هامش المسيرة التنموية الشاملة والمستديمة وأنّها لم تكن سوى المفهوم الذي عليه أن يكون حاضرا دون حضور فاعل. وأن يكون على هامش المجتمع الكبير وأن يكون مقتصرا على بعض المواقع إضافة إلى ما كان لموقع الولاءات من تأثير عليها حتّى وصل الأمر إلى الحديث عن الفساد في الجهاز الثقافي وأصبحت كلمة “ارحل” منطبقة على بعض المبدعين، وهذا ما حدث بعد الثورة.
حتى يكون المستقبل أفضل
هذا هو الماضي، لكن هل الحاضر يبشّر بمستقبل أفضل؟ أعتقد أنّ هذا هو السؤال الأهمّ لأنّ ما حصل حصل والمطلوب اليوم هو نظرة استشرافيّة لمستقبل الثقافة في صورتها المبدعة. إنّ الفترة التي نعيشها الآن بعد الثورة مباشرة قد أفرزت تفكيرا وتصوّرا للفنّ بصفة عامّة والفنّ التشكيلي بصفة خاصّة. حيث أصبحنا نشاهد تظاهرات في الشارع خاصّة يدّعي أصحابها أنّهم يعبّرون عن الثورة بالرسم وبعدّة أنماط تشكيليّة أخرى. وهناك من يختلق عناوين تثير الضحك مثل “فلتة في قلتة” وهناك من اتّخذ هذا الظرف ذريعة لاستباحة بعض الفضاءات والفعل عليها فعلا أقلّ ما يقال فيه أنّه اعتباطي وساذج واتّخذ مثالا على ذلك مجموعة الطلبة والفنّانين الذين تدخّلوا لونيّا على سيارات محروقة في ضاحية الكرم باسم الثورة، وهناك من دعا في وسائل إعلاميّة إلى تخصيص متحف لهذه السيارات المحروقة والمدهونة. إذن لم يجد الفنانون التشكيليون الذين اعتقدوا أنّ الثورة تبيح تغييرا سوى البحث عن أفكار ومحاولة تطبيقها أو تطبيقها فعلا دون تروٍّ ودون التساؤل عن أهدافها ووقعها على المدركين، فالمهمّ أن نجد فكرة ما ونطبّقها باسم الثّورة. وهناك أيضا من الفنّانين من يسمّي رسمه التجريدي باسم الثورة في حين أنّ العلاقة بين ما يقترحه وما يقوله لا علاقة له بالثورة الفنيّة ولا بالثورة في مفهومها الحادث والذي ما يزال غير واضح.
الفنّ التّشكيلي بين الابتذال والإبداع
يدلّ هذا التمشّي على هامشيّة الفعل التشكيلي باعتباره لا يستند على رؤى واضحة. فهو هكذا تعبير لا يمكن وصفه بالإبداع ويمكن أن يصدر عن أيّ كان سواء كان فنّانا أو طفلا أو مواطنا عاديّا. وهنا نتساءل هل يمكن لمسرحيّ لا يتقن تقنيّة المسرح أن يعبّر عن الثورة وأن يدّعي أنّ ما يقوم به عمل فنّي؟ أو هل يمكن للموسيقي الذي لا يتحكّم في تقنياته الموسيقيّة ليرتقي بها درجة الإبداع أن يؤلّف للثورة؟ وهذه الأمثلة تنطبق على الشعراء الروائيّين والسينمائيّين هذا إذا سلّمنا بشرعيّة هذا التعبير. لكن، هل نكتفي بالتعبير دون أن نرتقي به إلى مستوى الإبداع. إنّ فنّنا التشكيلي نتيجة لاختلاط الحابل والنابل فيه قد أدّى في هذا المنعطف إلى إضافة غموض على غموضه وأصبحنا نسمع عن ثقافة الغضب كما جاء على لسان وزيرة المرأة ويمكن أن نضيف ثقافة الحجر انطلاقا من اهتمام وزارة الثقافة ببعض الحجارة الأثريّة التي نُهبت من طرف بعض أزلام النظام السابق. ولا نستغرب عندما نقرأ ببعض الجرائد اكتشافا أثريّا هامّا جدّا يتمثّل في شواهد جنائزيّة تمثّل شكلا غامضا فُسّر على أساس أنّه صورة لشاب أرستقراطي من العهد الروماني ويستوجب هذا الشكل جهدا بحثيّا يتطلّب الكثير من الوقت.
غياب تصوّر ثقافي
ما نلاحظه في هذه الفترة هو نوع من المضحكات المبكيات، حيث لا نجد في خطاب الأحزاب الخمسين تصوّرا ثقافيّا لما بعد الثورة. وما نخشاه هو أن يصل إلى الحكم بعد الانتخابات شخصيّات يساريّة تعتبر أنّ “الفنّ ثوري أو لا يكون” فنسقط في الشكلانيّة الدعائيّة والتصويريّة الرمزيّة أو يصل ذوو الرؤى الإسلاميّة فيصبح الفنّان التشكيلي خطّاطا ومستلهما لأشكال الفنّ العربي الإسلامي كما وقع في الثمانينات. وهو أيضا فنّ فلكلوري أغرقنا في مفاهيم شكلانيّة كمفاهيم الأصالة والهويّة.
مسؤوليّة الفنّان
أمام هذا الخطر الدّاهم الذي سيؤثّر على العقول والنفوس، على الفنانين اليوم أن ينتبهوا إلى هذا الأمر ويقوموا بجهد ذاتي لكي لا ننزلق في متاهات تقتل الثقافة وتقتل البحث الذي من شأنه استشراف مستقبل حداثي ومعاصر ويفتح الآفاق أمام آلاف طلبة الفنون ليكون لهم فعل تنموي في محيط ما بعد الثورة سواء كان هذا المحيط عمرانيّا أو معماريّا أو بشريّا لأنّنا في حاجة إلى الإبداع لا إلى التّعبير. والمبدع الحقيقي يبحث دائما في أن يكون فنّه فاعلا ومغيّرا لا للرؤى الذهنيّة والفكريّة بل مغيّرا للرؤى العمرانيّة والمعماريّة ويكون لفنّه وقع على كلّ ما يدخل وظائفيا وجماليّا في حياتنا اليوميّة. لأنّ الفنان وخاصة التشكيلي منذ الأزل هو مبدع لأشياء مادّيّة وجوهريّة تنهض بالإنسان وتجعله متوافقا مع محيطه إضافة إلى النهوض به حضاريّا.
إنّنا في حاجة اليوم إلى فنّانين فاعلين يقطعون مع الماضي المهمّش للفنون وإلى وزارة مبدعة تعمل مع الفنّانين المبدعين لنشر الثقافة المبدعة في كامل أنحاء الجمهوريّة ليكون كلّ شبر فيها يُشعر المواطن بلذّة الانتماء وحتّى يكون لكلّ منطقة في بلادنا مبدعون يعملون على إعطائها روحا جماليّة جديدة بفعلهم في طبيعتها وعمرانها ومعمارها وأفكار ورؤى مواطنيها وليكن الهدف هو بلوغ المواطنة المبدعة أي أن يصبح كلّ مواطن مدركا جماليّا ولِمَ لا باحثا هو الآخر في سبيل إبداع هذا الجمال.
“صوت الشعب” – العدد 188
بقلم: الحبيب بيدة، فنان تشكيلي
ومدير المعهد العالي للفنون التشكيلية بتونس