قطاع الطّاقة والفساد الذي يحوم حوله، مازال يُسيل الكثير من الحبر من قِبَل كلّ القوى الديمقراطية والمجتمع المدني والمنظمات الوطنية الغيورة على الثروة الوطنية. لكن ومنذ أكثر من أربع سنوات عن انطلاق المسار الثوري في تونس، ورغم تعدّد الحكومات، فإنّ الملفّ لم يُفتح ولم تتجرّأ أيّ حكومة إلى الآن فكّ ألغازه وفضح اللوبيات التي وراءه وكشف المسؤولين المتمعّشين من الفساد الذي ينخره.
يمثّل بيان منظمة “أنا يقظ” بتاريخ 02 ديسمبر 2015، مواصلة للنضال الذي خاضته القوى الثورية وخاصة من خلال جريدة “صوت الشعب” التي اعتبرت الطّاقة في تونس صندوقا أسودا تصرّ كلّ الحكومات المتعاقبة على تركه مغلقا. وطالب البيان المعارضة باستعمال حقّها الدستوري في المطالبة بفتح تحقيقي جدي حول المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية ETAP وإقالة رئيسها المدير العام الحالي التي تعلّقت به شبهات فساد ودعي للتحقيق خلال شهر جوان 2015 من طرف قاضي التحقيق بالقطب القضائي، على خلفية فساد وسوء تصرف خلال ترأّسه للإدارة العامة للطاقة في عهد بن علي.
صمت الحكومات يتواصل
غير أنّ بيان المنظمة ليس دعوة جديدة للتحقيق في قطاع الطاقة، ذلك أنّ هيئات الرقابة الرسمية، هيئة المراقبة العامة المالية وهيئة المراقبة العامة لأملاك الدولة والشؤون العقارية وهيئة المراقبة العامة للمصالح العمومية، قد قامت خلال سنة 2014 بعمليات تدقيق شملت المؤسسات الوطنية الثلاث المعنية بالطاقة وهي المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية وشركة “ستير” والشركة التونسية للكهرباء والغاز. وأصدرت تقريرا صادما يعبّر عن مدى الفساد المستشري في القطاع الطاقي، ويمكن تلخيص ما ورد به فيما يلي:
– تناقض حادّ بين الأرقام المتعلقة بالإنتاج النفطي وتوزيع حصصه بين الشركات والدولة، حيث أثبتت عمليات المراقبة أنّ الفارق في الإنتاج تراوح بين مليون و103 آلاف برميل سنة 2010 و110 آلاف برميل سنة 2011.
– غياب تام لمصلحة أو وحدة متابعة للإدارة المعنيّة ببيع النفط والغاز بالمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية.
– غياب لدليل إجراءات متعلّق بعمليات بيع النفط لصالح الدولة، إضافة إلى غياب كامل لدليل متعلق بتوزيع إنتاج النفط والغاز بين الدولة وشركائها من الشركات النفطية، ممّا يجعل من الأرقام المقدّمة والمصرّح بها من طرف الشركات الأجنبية المستغلّة ميدانيا للثروة النفطية هي المحدّد في عمليّات توزيع حصص الإنتاج.
– مازال بيع النفط والغاز يخضع إلى مجرد مراسلة صادرة عن وزارة الاقتصاد لسنة 1974 رغم كلّ التحولات الهيكلية التي شهدها ويشهدها قطاع الطاقة على المستوى الدولي.
وبالتالي فإنّ هيئات الرقابة الوطنية أقرّت من خلال عمليات التدقيق:
- انتشار سوء التصرف والفساد المالي والإداري في مجال الطاقة.
- سيطرة لوبيات ومافيا المحروقات ذات بعد دولي تتمعش من الوضع في تونس، سواء نتيجة انعدام الإجراءات أو الفراغ القانوني الذي يقدّم ثروات الشعب النفطية لقمة سائغة في أفواه الشركات الأجنبية بتواطئي مفضوح مع أصحاب القرار السياسي والتقني المحلي.
- تجاوزات بالجملة في مجال الطاقة سواء في مجال الإنتاج والبيع والشراء أو عمليات التكرير، ممّا يعني ضرورة الشروع الفعلي في إصلاح هيكلي للمنظومة بكاملها.
التّدقيق في ملفّات الفساد: هل يكفي
إنّ إقرار هيئات الرّقابة بالفساد في المجال الطاقي وفي المؤسسات الوطنية المعنيّة به، وعدم تحرّك الحكومات المتعاقبة، يجعل الجميع يُقرّ بشكل حتمي بوجود مصالح تتقاطع مع مصالح من يحكمون. ولعلّ ما أقدم عليه مهدي جمعة في آخر أيام رئاسته للحكومة سنة 2014 من تجديد للعديد من رخص التّنقيب والاستغلال دليل واضح على تواطؤ الحكومات مع الشركات النفطية واللوبيات الدائرة في فلكها.
ولكن هل أنّ مطالبة المعارضة بمجلس نواب الشعب بتشكيل لجنة للتدقيق في الفساد المتعلّق بالمؤسسات المعنيّة بالطاقة وخاصة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية المؤتمنة قانونا على كلّ مراحل إنتاج الطاقة وتوريدها وتصديرها وإعطاء الرّخص للشّركات، يُعدّ كافيا؟ وهل أنّ نتائج هذا التّدقيق إن كُتب له أن ينجز ستكون ملزمة للسلطة التنفيذية لمساءلة كلّ من أجرم ونهب وأهدر الثروة النفطية في البلاد؟
لا أتصوّر أنّ ذلك سيكون ملزما أو قادرا على إحراج الحكومة التي هي بنفسها تعبيرة طبقية لمن يتحكّمون في القطاع سواء بالداخل أو بالخارج. كما أنّ الحكومة التي مازالت متمسكة بالرئيس المدير العام الحالي للمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية رغم أنه ومنذ شهر جوان 2015 قد مَثُل أمام قاضي التحقيق بالقطب القضائي بسبب شبهة فساد مالي وإداري بالإدارة العامة للطاقة بوزارة الصناعة في عهد بن علي، لا يمكن أن تكون فوق الشبهات في مسألة الفساد المنتشر بقطاع الطاقة، إن لم نقل بكلّ النسيج الاقتصادي والإداري. فلو كانت هذه الحكومة جادّة في مقاومة الفساد لأعفت هذا المسؤول حتى من باب التّوقّي وإبعاد الشبهات عليها في التغطية على الفساد والفاسدين أو على الأقل المنسوب إليهم تهم الفساد وإهدار المال العام.
ولكنّ المنظومة في تناغمها ومن أجل أن تواصل إنتاج قديمها بأسوأ ما فيه، فإنها لا تغطّي فقط على الفساد، بل تحميه وتجنّد له ترسانتها القانونية ومشاريعها المشبوهة مثل مشروع قانون المصالحة الاقتصادية الذي قُدّم من قِبَل رئيس الجمهورية لتبييض الفساد وتركيز ثقافة الإفلات من العقاب.
لن نسكت
إنّ ملفّ الطّاقة وما حام حوله من حديث وما شابه من تهم فساد ونهب للمال العام وإهدار للثروة الوطنية، لا يمكن أن يُفتح إلاّ بمواصلة الضغط والتشهير بالفاسدين ومن يحميهم ومن يغطّي عليهم ومن يساعدهم على إتلاف الملفات والوثائق. كما أنّ الملف معقّد ومتشابك وتتداخل فيه العديد من الأطراف واللوبيات والسماسرة من الداخل والخارج، إضافة إلى مواصلة المنظومة القديمة الإشراف شبه الكلي على القطاع، ممّا يجعل من المقاربة لفكّ رموزه تتطلّب الجرأة والإيمان العميق بالسيادة الوطنية، وهذا لن يكون إلاّ في إطار حكومة وطنية، حكومة مسؤولة ومؤتمنة على ثروة الشعب وخيرات الوطن.
ولعلّ ما يعطينا الأمل في أنّ النضال والضغط الميداني على الحكومة لفتح ملفات الفساد في مجال النفط والمحروقات يمكن أن ينجح، هو ما صدر أخيرا عن وزارة الصناعة من قرار إلغاء عقد اللزمة لثروة الملح بسبخة “اللذيبات” ببن قردان. هذا العقد الذي يعود تاريخه إلى عهد البايات ومازال بنفس الشروط إلى حدود تاريخ إلغائه سنة 2015، مدة طويلة ولكن المهم أنّ ملفّا طالبت به الجبهة الشعبية وفرض على الحكومة تنفيذه.
فمتى يفتح ملف الطاقة في تونس بكلّ فساده وسواده؟ أم أنه سيبقى صندوقا أسود تتلف فيه الثروة الوطنية وتستغلّ من طرف الشركات العالمية بأبخس الأثمان.
حسين الرحيلي:
جامعي ومختص في قضايا البيئة والتنمية وعضو لجنة التخطيط والدّراسات بالجبهة الشعبيّة
“صوت الشعب”: العدد 188