تعرّض فلاديمير بوتين، كما كان متوقّعا، في خطابه السنوي أمام المجلس الأعلى لفيديرالية روسيا الذي ألقاه يوم 3 ديسمبر والذي حضره ما يزيد عن الألف مسؤول سامٍ في دواليب الدولة الروسية، إلى التّدخّل الروسي في سوريا وبالخصوص إلى حادثة إسقاط الطائرة الحربية الروسية من قبل الجيش التركي واغتيال قائدها رغم مغادرته للطائرة والرّمي بنفسه بمظلّته، وهو ما يُعتبر خرقا لمعاهدات جينيف.
وحرص بوتين على الحضور الرمزي لزوجة “الطيّار المغدور” هذا الاجتماع الرسمي ليتعهّد أمامها وأمام الحاضرين أنّ دماء الرّوس لن تذهب هدرا. وقال معلّقا عن الحادثة إنّه يعتقد جازما أنّ الله قد أعمى بصيرة حكّام أنقرة حتى يتصرّفوا هذا التصرف الأرعن ولعله بذلك أراد التسريع بانهيارهم. وهو ما فسّره المراقبون على أنّه تهديد ضمني للنظام التركي. وقال إنّ تركيا قد طعنتنا في الظهر ونحن الذين كنا نمدّ إليها أيدينا لتطوير أوجه التعاون لما فيه خير الشعبين. وأكّد أنّ روسيا تعتبر الشعب التركي شعبا صديقا وهي لا تكنّ له سوى الاحترام، وهي حتى في حالات الغضب القصوى لا تخلط بين الشعب والنظام.
بينما اعتبر عديد المحلّلين أنّ تلك الواقعة كانت عمليّا بمثابة إعلان حرب صريح من جانب الحلف الأطلسي على روسيا. لذلك وجب التّساؤل على خلفيّات هذه العمليّة حتى نفهم ما الذي يدور فوق الأرض السورية تحديدا وفي المناطق المجاورة عموما.
تركيا والرّغبة في بسط السّيطرة على شمال سوريا
لا يخفى على أحد أنّه منذ بداية الحرب على سوريا وقفت أنقرة موقف الرّاعي والمساند والدّاعم لكلّ أطياف المعارضة لنظام بشار الأسد. ومع تزايد ضعف النظام السوري بفعل هذا العدوان، لم تعد الدولة السورية قادرة على بسط نفوذها على جميع أراضيها، فاستباحت التنظيمات الإرهابية بعض الأجزاء وكذلك فعلت الدولة التركية المجاورة التي شهدت أحد أحلامها يتحقّق وهو بسط نفوذها على شمال سوريا لسببين اثنين على الأقل:
ـ قطع الإمدادات على المقاتلين الأكراد في شمال سوريا والمشكّلين في “وحدات حماية الشعب” وهي تنظيم سياسي عسكري لا يخفي تعاطفه مع حزب العمال الكردستاني المصنّف تنظيما إرهابيا من قبل النظام التركي والذي يقضّ مناضلوه مضاجع حكّام أنقرة.
ـ خلق الممرّات الآمنة في تلك المناطق لتأمين مدّ التنظيميات الإرهابية بالمساعدات الـ”إنسانية” والمتمثلة في السلاح والعتاد والمقاتلين الوافدين من كلّ حدب وصوب ليس فقط للإطاحة بغريمه التقليدي، نظام بشار الأسد بل وكذلك في نفس الوقت منع المقاطعات الكردية في شمال سوريا من أن تلتحم ببعضها البعض وتشكّل وطنا مستقلاّ للأكراد. وهو ما يفسّر دعم تركيا اللاّمحدود لمختلف التّنظيمات الإسلاميّة بما فيها تنظيم الدّولة كي تحتلّ تلك المقاطعات وتمزّقها. فما هي حقيقة الأمر في تلك المقاطعات؟
المقاطعات الكرديّة في شمال سوريا
كردستان السوري، أو كردستان الغربي أو روجافا (وتعني الغرب باللغة الكردية). هي تسمية إشكاليّة تطلق على ثلاثة مقاطعات تقع في شمال سوريا والشمال الشرقي منها وهي عمليا مناطق مستقلة اليوم. ففي شهر نوفمبر 2013، التقى ممثلون عن سكّان هذه المناطق من أصول كردية وعربية وآشورية وبعض الأقليات الأخرى وأعلنوا عن قيام حكم ذاتي لإدارة هذه المناطق التي يسكنها قرابة مليوني نسمة. حكم ذاتي له صلاحيات متعدّدة، سياسية وعسكرية واقتصادية وأمنية.
ولدى القوميين الأكراد، فإنّ تسمية “روجافا” تعني المناطق الجغرافية التي سكنتها تاريخيا قبائل كردية والتي ألحقها المستعمر الفرنسي بسوريا غداة الحرب العالمية الأولى بمقتضى اتفاق أبرم مع تركيا المهزومة سنة 1921. وهي في الحقيقة ثلاثة مناطق مفصولة عن بعضها لكنها تمثّل امتدادا جغرافيا للمناطق الكردية في كلّ من تركيا والعراق، لذلك يعتبر البعض أنّ تسمية كردستان سوريا لا تستقيم بل وجب الحديث عن “المناطق الكردية بسوريا” ليس إلاّ.
ومنذ اندلاع الحرب في سوريا، حرص الأكراد بقيادة “الحزب الديمقراطي الكردستاني” على بسط نفوذهم على مناطقهم، وسهّل عليهم ذلك انسحاب الجيش السوري الذي وُجّهت قواه للتصدّي للتنظيمات المسلّحة التي بدأت أعمالها العدوانية في مناطق أخرى من البلاد. وبداية من سنة 2013، وجد الأكراد أنفسهم في مواجهة مع التنظيمات الإسلامية التي حاولت مدّ نفوذها إلى مناطقهم بتحريض ودعم من النظام التّركي. فخاضوا معارك كبرى ضدّ كلّ من جبهة النصرة وهي جناح تنظيم القاعدة في سوريا وأحرار الشام وخاصة ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية الذي حاول التمدّد إلى المناطق الكردية، والذي تمكّن المقاتلون الأكراد من دحره على أبواب مدينة “كوباني” الصامدة.
استخدام التّركمان في شمال سوريا
قبل التدخل الروسي، كانت تركيا تسعى إلى خلق منطقة عازلة في شمال سوريا، تطمح إلى جعلها ممنوعة عن الطيران الحربي، وهي منطقة تمتد إلى عمق 35 كلم داخل التراب السوري وتسكنها أساسا أقلية تركمانية، قرابة 200 ألف نسمة، وهم من سلالة القبائل التركمانية التي استقرّت بمنطقة الأناضول منذ القرن الحادي عشر والذين تعايشوا بسلام مع باقي القوميات في سوريا حتى اندلاع الحرب الأخيرة. وقد زعمت الدعاية التركية أنّ هذه الأقلية تعرّضت إلى عمليّات إبادة من قبل الجيش السوري في بداية النزاع وطالبت بحمايتهم حتى يتسنّى لها إنجاز مخطّطها. واستخدمت جزءً منهم، وهم العارفون بجغرافية المنطقة وتضاريسها، في مدّ العصابات الإرهابيّة بالسّلاح والعتاد بل وتحويل البعض منهم إلى مقاتلين ضمن تلك التنظيمات. وقد شرع نظام أردوغان في إقامة مخيّمات في تلك المناطق بالذات لاستقبال السوريين الفارين من أتون الحرب والتي برعت تركيا في استخدامهم لابتزاز الدول الأوروبية خصوصا بتهديدها بالسّماح لهم بالتّوجّه نحو البلدان الأوروبية، وهو ما أنجزت عيّنة منه خلال الصائفة الماضية، إلى أن صادق الاتحاد الأوروبي على منحها مساعدة تقدّر بـ3 مليار يورو لكبح جماح المرشحين للهجرة وإقامة المخيّمات المذكورة على حدودها مع سوريا.
التّدخّل الرّوسي يعرقل مشروع التّوسّع التّركي
كانت تركيا تنظر بعين الريبة إلى التدخل العسكري الروسي في سوريا، خاصة لمّا لاحظت أنّ جزء مهمّا من القصف شمل مناطق شمال محافظة اللاّذقية لتبديد أحلام الإرهابيّين في إقامة طريق لتمرير الأسلحة والإمدادات يصل بين حلب وغروزني في الشيشان اللتين لا تفصل بينهما سوى 900 كلم، خاصة وأنّ روسيا تعلم حقّ العلم أنّ عديد القادة العسكريين الضالعين في الإرهاب والناشطين في سوريا هم من الشيشان أو من أوزباكستان وقد يعودون يوما إلى بلدانهم لإحياء حلم إقامة الإمارة الإسلامية.
وقد أشار بوتين إلى ذلك في خطابه، مبرّرا تدخّل الجيش الروسي في سوريا، لا بمحاربة الإرهاب فحسب، بل للدفاع الذاتي عن روسيا وشعوبها كذلك. وهو ما جعل الموقف الروسي من التنظيمات الجهادية ـ وهي المكتوية بنار الإرهاب الديني سنوات التسعينات ـ مختلفا عن موقف الغرب الذي يصنّف بعضها معتدلا والقلّة القليلة منها تنظيمات إرهابية. لذلك خطّطت تركيا للقيام بعمل ما لكبح التّدخّل الروسي أو على الأقل تحديده جغرافيّا وإقناع حلفائها بأنّ أمنها معرّض للخطر. لذلك ذهب بعض المحلّلين إلى أنّ حادثة إسقاط الطائرة كان مخطّطا لها، ورامت من ورائها حشد التعاطف معها. إلاّ أنّها لم تُفلح لأسباب عديدة لعلّ أهمّها ارتفاع الأصوات في أوروبا التي تطالب الحكومات الغربية بمراجعة علاقاتها مع البلدان الرّاعية للإرهاب. وكانت تركيا، لدى الجميع، على رأس قائمة هذه البلدان خاصّة بعد العملية الإرهابية في باريس وتوتّر الأوضاع داخل تركيا ذاتها من جرّاء سياسة الحرب التي يخوضها نظام أردوغان ضدّ الشعب الكردي والتي من تبعاتها استهداف المعارضين السياسيين بالقمع وحتى الاغتيال، وانكشاف خيوط التعاون بين النظام التركي والتنظيمات الإرهابية في ما عرف بفضيحة شراء البترول السوري والعراقي المنهوب منها.
تلك هي إذا بعض خلفيّات هذا الاحتقان، والتي يمكن إيجازها في كون أهداف كلّ من موسكو وأنقرة في ما يسمّى بالحرب على الإرهاب هما على طرفي نقيض.
الجامعي والناشط الحقوقي مرتضى العبيدي
صوت الشّعب/ العدد 188