نظّمت الجبهة الشعبية بسوسة، أخيرا، ندوة علمية تحت عنوان “مشروع القانون الأساسي للانتخابات المحلية رؤية نقدية”، أثّثتها وجوه جامعية مختصّة في القانون العام والقانون الدستوري بادرت بتدارس مشروع هذا القانون تحليلا ونقدا ومن زوايا متعدّدة.
مشروع القانون تكريس لخيارات السلطة التأسيسية لكن…
في مداخلة بعنوان “الديمقراطية المحلية من خلال مشروع القانون الأساسي المتعلق بالانتخابات المحلية”، بيّنت الجامعية المختصّة في القانون العام الأستاذة نادرة عبد الكافي أنّ مشروع القانون يتضمّن عدة فصول جاءت متماشية مع مقتضيات وروح الباب السابع من دستور 2014 المتعلّق بالسلطة المحلية وخاصة تلك المتعلقة منها بمبدأ التدبير الحر وانتخاب المجالس المسيرة للجماعات المحلية ومن بين النقاط الإيجابية التي جاء بها مشروع القانون النزول بسن الترشح للانتخابات المحلية إلى 18 سنة (الفصل 13 من المشروع) وتحديد النيابة بمدتين نيابيتين متتاليتين (الفصل 16) ومنع الجمع بين النيابات المحلية والجهوية والوطنية (الفصل 17). كما ثمّنت المتدخلة ما تضمّنته أحكام مشروع القانون من منع الأقارب من أن يكونوا أعضاء في نفس المجلس البلدي أوالمجلس الجهوي وإعطاء الأولوية في النيابة لأصغر الأقارب سنا.
وفي نفس الإطار، اعتبرت المتدخلة أنّ مشروع القانون كان وفيّا لخيارات السلطة التأسيسية لمّا كرّس مبدأ التناصف العمودي والأفقي في تركيبة القائمات المترشحة، وفي ذلك تفعيل لما جاء به الفصل 34 من الدستور “تعمل الدولة على ضمان تمثيلية المرأة في المجالس المنخبة” وبيّنت أنّ من بين النقاط المضيئة في هذا القانون هو ما تضمّنه فصله الـ23 من توجّه واضح نحو تشبيب المجالس الجهوية والمحلية، حيث نصّ الفصل 23 من المشروع على ما يلي:” يتعيّن على كلّ قائمة مترشحة أن لا يتجاوز سنّ ثلث أعضائها 35 سنة، على أن لا تضمّ من بين الـ3 الأوائل فيها مترشحا أو مترشحة لا يزيد عن 35 سنة. ولا تقبل القائمة التي لاتحترم هذه الشروط”.
واعتبرت المتدخلة أنّ هذا الفصل، على أهميته وجرأة مضمونه، لا يؤمّن بالضرورة تمثيلا حقيقيا للشباب، ذلك أنّ فرض ثلث المترشحين على القائمة من الذين لم تتجاوز سنهم 35 سنة لا يفضي إلى حتمية انتخابهم. كما أنّ فرض أن يكون، من الـ3 أسماء الأولى في القائمة، مترشح ومترشحة لا تزيد سنّه عن 35 سنة لا يؤدي ضرورة إلى إمكانية انتخابه إلاّ في صورة فوز القائمة المعنيّة بأكثر من 3 مقاعد، وهو أمر ليس متاحا دائما. واعتبرت الأستاذة المحاضرة أنّ مشروع القانون كان يمكن أن يكون أكثر تلاؤما مع روح الدستور (الفصل 133) لو أبدى المشرّع أكثر جرأة من ذلك، وألزم الأحزاب التي تتقدم في أكثر من 3 دوائر بإسناد رئاسة ثلث القائمات للشباب.
وفي الجزء الثاني من المداخلة، بيّنت المتدخّلة أنّ مشروع القانون يتضمّن في المقابل عدة فصول تتعارض مع مقوّمات الديمقراطية المحلية، على غرار ما تضمّنه الفصل 8 من المشروع من إقرار وجوبية التسجيل بالقائمات الانتخابية وترتيب عقوبة إدارية لكلّ من يخالف هذا الواجب تتمثل في الحرمان من التمتّع بالخدمات الإدارية المحلية، فقد نصّ هذا الفصل على مايلي”التسجيل على القائمات الانتخابية واجب على كل التونسيين والتونسيات الذين تتوفر فيهم الشروط القانونية. وتكون عملية التسجيل إرادية وشخصية وبمقرات الهيئة أو بكل مقر تعتمده الهيئة للغرض ويتم ذلك بإثبات عنوان الإقامة… تعمل الإدارات العمومية بالتنسيق مع الهيئة على إدماج شهادة التسجيل في السجل الانتخابي في الوثائق المطلوبة للتمتع بالخدمات الإدارية وبالخصوص المحلية منها”. ومعروف أنّ هذا الفصل يتعارض مع الفصل 34 من الدستور الذي يعتبر صراحة أنّ حقوق الانتخاب والإقتراع والترشح وما يرتبط بها من إجراءات كالتسجيل بالقائمات الانتخابية تدخل في إطار الحقوق التي يتمتع بها الناخب ولا يقبل تحويل هاته الحقوق إلى واجبات تكون مشفوعة بعقوبات مهما كان نوعها.
وبيّنت الأستاذة أنّ مصطلح “الإقامة الفعلية”، الوارد بالفصول 9 و16 كمعيار للانتخاب والترشح، يعتبر مفهوما غامضا يتطلب من الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وضع معايير دقيقة لتحديده. كما أنّ ربط المترشح بمعيار الإقامة الفعلي يشكّل تضييقا على حقّ الترشح ويستوجب الأخذ بمعايير أخرى تتعلق بالإرتباط المهني أو الاقتصادي.
ومن جهة أخرى، اعتبرت المتدخلة أنّ إقرار مبدأ الصرف اللاّحق للمنحة العمومية، وإن كان من شأنه أن يساهم في ضمان جدية الترشحات والحفاظ على المال العام، فإنه يقلّص من الحظوظ التنافسية للأحزاب الصغرى ويؤدي إلى تغليب مصالح الأحزاب الكبرى، وكان بالإمكان توخّي حلّ وسطي كأن يتمّ مثلا صرف نسبة 25 من المنحة قبل الحملة الانتخابية وصرف الـ75 المتبقية للقائمات التي تتحصل على أكثر من 5 من الأصوات وإلزام القائمات التي لا تتحصل على هاته النسبة بإرجاع قيمة المنحة المسبقة.
حقّ التّرشّح تجسيد لقيم المواطنة وسيادة الشّعب
المداخلة الثانية قدّمها الأستاذ فريد الهمامي، وسلّطت الضوء على حقّ الانتخاب في مشروع القانون متعرّضا لشروط الانتخاب التي جاءت متماشية إجمالا مع مقتضيات الدستور المتعلقة بحق الترشح والذي يُعدّ من أهم مظاهر تجسيد قيم المواطنة وسيادة الشعب، فما تضمّنه الفصل السادس من المشروع، تحديدا في نقطته الرابعة، من منع أعضاء الجيش الوطني والأمن الوطني والحماية المدنية وموظفي الديوانة ومصالح السجون من الانتخاب والترشح يُعتبر خرقا جسيما للفصل 34 من الدستور الذي يضمن حقّ الانتخاب والاقتراع والترشح لكلّ مواطنة ومواطن ولا يستثني من حقّ التصويت فئة معيّنة بحكم وضيفتها. واعتبر الأستاذ المحاضر أنّ تعلّل السلطة، التي أعدّت هذا القانون، بمبدأ حياد هؤلاء الموظفين لا يعدو أن يكون سوى تعلّة واهية خاصّة وأنّ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات اعتبرت في الإستشارة التي طلبتها منها منع هؤلاء الموظفين من الانتخاب ليس له ما يبرّره، غير أنّ الإدارة العامة للجماعات المحلية لم تأبه لرأي الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وأصرّت على حرمان جزء من المواطنين من حقّ أساسي ألا وهو حقّهم في الانتخاب.
طريقة الاقتراع ليست مسألة تقنيّة وإجرائيّة محايدة
المداخلة الثالثة قدّمها الأستاذ محمد الحباسي وتناولت بالدراسة طريقة الاقتراع المعتمدة في مشروع القانون الأساسي للانتخابات المحلية. واعتبر المحاضر أنّ طريقة الاقتراع لا يمكن اعتبارها مجرّد مسألة تقنية وإجرائية انتخابية محايدة، بل هي اختيار مدروس يعكس موازين القوى السياسية، في ظرف تاريخي محدّد وفي ظلّ مناخ سياسي معيّن. واعتبر المحاضر أنّ اعتماد طريقة اقتراع مختلطة مع ترجيح الاقتراع الأغلبي لا يتلائم مع مقتضيات التمثيل الديمقراطي التعددي وأنّ الاختيار بهاته الطريقة يأتي في مناخ سياسي يتّسم بتزايد المؤشرات الدالة على اتجاه الحزبين الأغلبيّين في مجلس نواب الشعب نحو السيطرة على كل مؤسسات الدولة (المجلس الأعلى للقضاء، المحكمة الدستورية) وعلى تركيبة المجالس البلدية والمحلية، عبر هذا المشروع.
وتتمثل طريقة الاقتراع الواردة بمشروع القانون في التصويت على القائمات المغلقة في دورة واحدة مع إسناد نصف المقاعد زائد مقعد للقائمة التي تحصلت على أكبر عدد من الأصوات. وتوزّع باقي المقاعد حسب التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا، وهي نفس الطريقة المعتمدة في ظل نظام بن علي بعد تعديل المجلة الانتخابية في 1990، ويؤدّي الأخذ بهذه الطريقة إلى نتيجتين:
– هيمنة الحزبين الكبيرين (النهضة والنداء) على كامل المشهد السياسي المحلي وهو ما يتنافى مع التمثيل الديمقراطي التعدّدي.
– هذا النظام من شأنه أن يُفضي إلى هيمنة أقلية على القرار داخل المجالس البلدية والجهوية دون حصولها على تمثيلية انتخابية تتلاءم مع نسبة المقاعد المتحصل عليها وهو ما يعرف بالأثر التضخيمي لطريقة الاقتراع الأغلبي. فمثلا يمكن للقائمة التي تحصلت على أغلبية بسيطة (20 أو 30% مثلا) أن تحصل على نصف المقاعد زائد واحد مع إمكانية حصولها على مقاعد أخرى عند توزيع بقية المقاعد باعتماد طريقة التمثيل النسبي.
وبالنظر إلى ما تؤدي إليه من سلبية يكون من الأفضل الإبقاء على طريقة الاقتراع بالتمثيل النسبي مع اعتماد أكبر البواقي، لما تتميز به هاته الطريقة من مزايا، سواء من حيث ضمانها لعدالة التمثيل داخل المجالس البلدية والمحلية أو لما تتسم به من بساطة وعدم تعقيد. ويمكن ترشيد هاته الطريقة عبر قصر حقّ التمثيل على القائمات التي تتجاوز عتبة الـ5 % من أصوات الناخبين لضمان حد أدنى من الاستقرار داخل الهيئات المنتخبة ومنع تشتّت المقاعد بين عدد غير محدود من القائمات.
النّزاع الانتخابي بين تعقيد النّظام الإجرائي وتشتّته
مداخلة الأستاذة نعيمة بن أحمد والمتعلقة بـ”النزاع الانتخابي في مشروع القانون الأساسي للانتخابات المحلية”، تركزت حول دراسة النظام القانوني للنزاع الانتخابي المحلي من خلال مشروع القانون. وانتهت إلى استنتاجين أساسيين يتمثل الأول في هيمنة سمات التعقيد والتشتت على النظام الإجرائي للنزاع الإنتخابي (الإجراءات، القاضي المختص وآجال التقاضي، وتعدد هياكل الرقاية). ويتمثل الثاني في ضعف الإطار الزجري للجرائم الإنتخابية، حيث تمّ اللاكتفاء بعقوبات مالية خفيفة دون اعتماد عقوبات سياسية (إسقاط القائمات) وهو من شأنه أن يفتح المجال للتجاوزات والإخلالات في غياب رادع قوي وزجري يحول دون ذلك.
إرساء الدّيمقراطية المحلّيّة رهان تاريخي
الحضور تفاعل مع ما تم تقديمه من أفكار وتوضيحات، أكّدوا على أهمية الندوة لارتباطها برهان كبير وهو الديمقراطية المحلية ولانعكاس نتيجة الانتخابات المحلية على الانتخابات الوطنية المقبلة بفرعيها التشريعيي والرئاسي، وهو ما يحتّم على الجبهة الشعبية الاستعداد كما يجب لهاته المحطة الانتخابية والنضالية المهمة، عبر العمل على التصدي لكل الفصول المخالفة للدستور وفرض تنقيحها عند عرض المشروع على التصويت أولا، وإعداد العدة تنظيميا وسياسيا للدخول في هذه الانتخابات بأوفر جظوظ ممكنة ثانيا، خاصة وأنّ المعطيات الموضوعية للمشهد السياسي الحالي في صالح الجبهة أمام فشل الإئتلاف اليميني الحاكم على إيجاد حلول للأزمة الخانقة التي تمر بها البلاد.
كما أجمعت كلّ التدخلات على أنّ نتيجة الانتخابات مرتبطة بمناخ كامل تتداخل فيها عدة اعتبارات سياسية (تحييد المساجد عن الشأن السياسي) ومالية (الرشوة وشراء الأصوات والمال السياسي الفاسد…) وإعلامية (مدى حياد الإعلام العمومي والخاص) وثقافية (الوعي السياسي) إلى جانب البعد القانوني الذي تم التركيز عليه في المداخلات التي قدّمها المحاضرون.
صوت الشعب: العدد 190