“تمخّض الجبل فولد فأرا”. هذا ما يمكن قوله بشأن التحوير الوزاري المعلن منذ ساعات والذي بدأ الحديث عنه منذ أشهر. وكان في كل مرة يؤجّل، تارة بدعوى توفير الفرصة لتقييم عمل كل وزير، وتارة أخرى بذريعة توسيع التشاور، ولكن الجميع كان يعلم أن السبب الحقيقي للتأخير هو الصراع وعدم التفاهم حول اقتسام الكراسي، إذ وجد الحبيب الصيد نفسه بين نيران عديدة، فكان كلما حاول إرضاء طرف إلا وغضب الآخر وهدّد بالانسحاب من الحكومة أو بتعطيل تشكيلها. وقد جاء التحوير الوزاري ليعكس هذا الصراع والحسابات الحزبية الضيقة على حساب مصالح تونس وشعبها.
لا بدّ في البداية من الإشارة إلى أن هذا التحوير تم دون التشاور مع الجبهة الشعبية مثلا. فهي لم تُسأل ولو مجرد السؤال عن رأيها في تقييم عمل الحكومة السابق ومكامن فشله وعن تصورها لحكومة قادرة على مواجهة التحديات التي تشهدها البلاد. نقول هذا فقط لتفنيد ما يروّجه التحالف الحاكم من أنه يرغب دائما في استشارة كل القوى وأحذ رأيها في القضايا العامة التي تهمّ مصير البلاد.
أمّا في خصوص التحوير ذاته فمن الواضح أنه ليس نتاجا لتقييم أداء الحكومة ككل ولا أداء الوزراء فردا فردا، بل هو خضع مرّة أخرى لمنطق المحاصصة فاتّسع اقتسام توزيع الكعكعة داخل التحالف الحاكم. كما خضع لمنطق التّرضيات وخاصة ترضية “حركة النهضة” التي ازداد نفوذها بعد هذا التحوير، أمام “نداء تونس” تهزّه الصراعات والانقسامات، بل ويغلب عليه شقّ مستعد للتنازل لهذه الحركة لتقوية مركزه في مقابل الشق المنافس.
لقد كسبت حركة النهضة موقعا وزاريا جديدا وهو وزارة الطاقة والمناجم. وتكون بذلك قد وضعت يدها على قطاعين أساسيين في الحكومة وهما قطاع الفلاحة، التي أصبحت النهضة تمسكه بالكامل، من الاتحاد الوطني للفلاحين، إلى لجنة الفلاحة بالبرلمان، إلى الوزارة، وقطاع الطاقة والمناجم حيث أصبحت تتحكم فيه وزارة ولجنة برلمانية. وحسب العديد من الملاحظين فإن وزير العدل الجديد إن لم يكن قريبا من “النهضة” فهو على الأقل يحظى بتزكيتها وهي التي لا تريد وزير عدل قادر على تحريك الملفات التي تحرجها وتورّطها ومنها ملف الاغتيالات السياسية، وخاصة اغتيال الشهيدين شكري بلعيد والحاج محمد والبراهمي، زعيمي الجبهة الشعبية. أما وزير الداخلية الجديد، الهادي المجدوب، فلئن كان من موظفي الوزارة القدامى، فقد عمل مع علي العريض، ثم عاد مع الصيد ليشغل كاتب دولة للجماعات المحلية. ولا بد من ملاحظة أن الصيد قد خلق خطة جديدة للنهضاوي، نجم الدين الحمروني الذي شغل كاتب دولة مع سعيد العايدي وهذه الخطة هي “مستشار مكلف بـ”اليقظة والاستشراف”؟ اليقظة حيال ماذا؟ واستشراف ماذا؟ وأخيرا فقد حافظ على الوزير النهضاوي الغائب تماما من الساحة الحكومية وهو زياد العذاري وزير التشغيل……
ومن جهة أخرى فليس خافيا على أحد أن عزل وزير الشؤون الدينية، عثمان بطيخ ووزير الشؤون الخارجية، الطيب البكوش، ما هو إلا ترضية لحركة النهضة. فالأول أثار غضب “النهضة” بسبب ما عرف بمعركة الأئمة، والثاني فإن النهضة لم تغفر له بعض مواقفه ومنها اتهام تركيا في وقت من الأوقات بالتورط في تسفير الشباب التونسي إلى سوريا. أما بمن عوّض الطيب البكوش، فبالجهيناوي الذي يعرف القاسي والداني أنه كان شغل رئاسة مكتب تونس بالكيان الصهيوني في عهد بن علي وكان الديبلوماسي الوحيد الذي قبل تلك المهمة حين فتح بن علي ذلك المكتب تحت ضغط الأمريكان وبعض الدول الأوروبية التي تدفع نحو تطبيع علاقات الدول العربية بذلك الكيان على حساب المصلحة الوطنية للشعب الفلسطيني. وبهذه الصورة تكون حركة النهضة قد عززت مواقعها.
ومن جهة ثالثة فقد حصل الاتحاد الوطني الحر على وزارة جديدة وهي وزارة التجارة. وهكذا يكون قد ارتفع نصيبه من الوزارات إلى أربع. أما الوزير الجديد فهو محسن حسن الذي كان قد أزيح من تشكيلة الصيد الأولى لوجود تحفظات كبيرة عليه. ولا يوجد اليوم ما يؤكد زوال تلك التحفظات. وهو ما يؤكد انقياد الحبيب الصيد في اختيار وزرائه الجدد بنفس منطق المحاصصة الذي قاده في اختيار تشكيلته الأولى.
هذه إجمالا بعض الملاحظات حول التحوير الوزاري الحالي في انتظار العودة إليه بأكثر عمقا. فقد تم مرة أخرى على قاعدة المحاصصة والترضية، فلا مراجعة للاختيارات والتوجهات الأساسية ولا مراعاة لمصالح الوطن والشعب. وبالطبع فإن فاقد الشيء لا يعطيه. فلا حزب نداء تونس ولا حركة النهضة ولا بقية أحزاب التحالف تمثل هذه المصالح أو هي قادرة على خدمتها. ولو أنه تمّ اتباع معايير موضوعية في تشكيل الحكومة الجديدة لتطلّب ذلك تغيير الحكومة كلها ومراجعة اختياراتها بالكامل باعتبارها حكومة فاشلة، عمقت مشاكل البلاد ولم تحلّ ولو واحدة منها.
ومن هذا المنطلق فإن الحكومة الجديدة القديمة ستكون عنوانا لفشل جديد ولتعميق الأزمة التي تتخبط فيها بلادنا نتيجة الاختيارات البعيدة كل البعد عن انتظارات الشعب ومطالبه الأساسية في الشغل والحرية والكرامة الوطني. وهو ما يضع الجبهة الشعبية وكافة القوى الديمقراطية أمام مسؤولية كبيرة، لتوعية الشعب وتنظيم صفوفه وكسب ثقته لفتح آفاق جديدة أمامه.