انطلقت شرارة انتفاضة الخبز بمدينة دوز، الصغيرة في حجمها والهادئة بواحاتها الخلابة، مدينة يرتكز اقتصادها أساسا على الفلاحة وتحديدا صابة التمور. مدينة بسيطة في نمط عيشها، ظلّت لعقود من الزمن تدفع فاتورة البطالة والتهميش والإقصاء في صمت مشحون بالرفض والغضب تفجّر دفعة واحدة نتيجة إقدام حكومة محمد مزالي على قرار رفع الدعم عن الحبوب ومشتقاتها، وأفضى تحت ضغط صندوق النقد الدولي إلى الزيادة في سعر العجين ومضاعفة سعر الخبز الذي قفز من 80 م إلى 170م للخبزة الواحدة.
وتزامنت هذه الزيادات مع يوم السوق الأسبوعي في 29/12/1983 حيث عمّ التوتّر وارتفع منسوب الاحتقان إلى درجة عالية لدى الأهالي ولدى الشباب الثائر الذي ترجم هذا الاحتقان إلى عريضة احتجاج مشفوعة بمسيرة سلمية أمام مقر الولاية في المساء. لكنّ السلط المحلية ردّت بعنف على هذا الحق الدستوري في التظاهر والتعبير ولم يجد المتظاهرون بدّا من الردّ بدورهم على العنف بالعنف.
مواجهة الاحتجاجات بالرّصاص الحي
اشتدّت المواجهات إثر إقدام السلطة، يوم 02/01/1984 على اغتيال الشاب “السّاسي بن الشاذلي”، ابن الـ20 سنة والذي مازال مقتله محفوفا بالغموض، حيث وقع اغتياله بدم بارد إثر المسيرة، على مقربة من مقر سكناه، ودُفن بحضور الأمن وعائلته فقط.
عمّت الاحتجاجات، خلال 24 ساعة، مدن الجنوب التونسي: دوز وقبلي وسوق الأحد والحامّة وقفصة والقصرين وقابس أين دخلت المنطقة الصناعية في إضراب شامل ومسيرات كبرى، شارك في تنظيمها العمّال والطلاّب. ثم اتجهت نحو صفاقس وبعدها إلى العاصمة يوم 03/01/84 أي بعد 5 أيام من المسالك التي تذكّر بالمعارضة اليوسفية.
بعد ذلك استقبلتها آلاف الحشود الطلابية من أبناء المدن التي مرّت بها الانتفاضة، وهي جماهير تتّقد حنقا وغضبا، مهيكلة في إطار “الهياكل النقابية المؤقتة للاتحاد العام لطلبة تونس”، تدعمها حركة تلمذية فتيّة وشباب مُعدم من سكان “الأحياء القصديرية” بالملاسين والجبل الأحمر وعاطلون عن العمل من حيّ ابن خلدون وحيّ التحرير وحيّ الزهروني والورديّة وغيرها من الحزام “الواقي” للعاصمة التي يقطنها 1.5 مليون ساكن. هذه العاصمة التي تطوّرت بسرعة كبيرة وتقابلت فيها مظاهر البذخ والترف مع الفقر المدقع الممزوج بالقمع والاضطهاد.
وعلاوة على البؤس الاجتماعي والتّفقير والمهانة لشرائح واسعة من الطبقات الشعبية ظلّ القمع والبؤس السياسي على أشدّه. فالحركة الطلابية مقموعة وأدواتها النضالية مسلوبة. والحركة النقابية خارجة من تداعيات أزمة 26 جانفي وقيادتها غارقة في تفاصيل المصالحة الوطنية و”المعارضة الكرتونية” منتشية بنعمة القانونية التي منّ بها عليها بورقيبة. واليسار الراديكالي مُنهك بالمحاكمات السياسية ومُرهق بالخلافات التنظيمية. وتداعيات عملية قفصة 1980 مازالت عالقة بالأذهان.
كلّ أجزاء هذا المشهد العام لا يمكن إلّا أن تنتج الاحتقان والنقمة على الماسكين بزمام السلطة والبرجوازية الكبيرة بشكل عام. وليس غريبا أن تطال مظاهر العنف رموز السلطة البورقيبية وكلّ مظاهر الغنى الاجتماعي مثل مقرات حزب الدستور ومراكز الشرطة والمغازات والبنوك والمباني الفاخرة.
إمعان السّلطة في القمع
لمّا عجزت قوّات الأمن عن السيطرة على الأحداث استدعى بورقيبة قوات الجيش الذي خرج عن الحياد وأعلنت حالة الطوارئ يوم 4 جانفي. وسرى مفعول حظر التجول وانتصبت المزمجرات العسكرية في مداخل العاصمة وشوارعها الرئيسية والمدن الكبرى. وأُغلقت كافة المعاهد والمؤسسات الجامعية. فكانت حصيلة الأحداث ثقيلة جدا: 84 قتيلا وأكثر من 900 جريح حسب المصادر الحكومية، في حين تحدثت مصادر غير رسمية عن مئات القتلى وآلاف الجرحى. ونشطت آلة البوليس السياسي وكثّفت من اعتقالاتها، مُلقية بالتهم تارة على اليساريين وطورا على النقابيين. أمّا الإسلاميون فقد ندّدوا بأعمال العنف واستثمروا، كالعادة، الانتفاضة لطيّ صفحة محاكمات 1981. أمّا القيادة النقابية العاشورية فقد غمست رأسها في الرمل لتحصد غنائم المصالحة النقابية، واكتفت بالتعليق على “الطابع المتسرع للزيادات”.
وتواترت عشرات المحاكمات الصورية وحُكم على 10 أشخاص بالإعدام، أُعفي عنهم لاحقا في 19 جوان 1984 وعُوضت أحكامهم بالمؤبد.
في الـ6 من جانفي 1984 وبعد 8 أيام دامية من الانتفاضة، حسم الرئيس بورقيبة الموقف والصراع الضّاري بين الأجنحة في السلطة. وخرج ليُعلن التراجع عن الزيادة في أسعار الخبز في خطابه الشهير”نرجعو كيف ما كنّا!”.عندها تنفّس الشعب التونسي الصعداء، وخرج مئات الآلاف للتعبير عن انتصارهم. وعمّت فرحة تحقيق المكاسب على السلطة الديكتاتورية وجوه الجميع واعتلى الشباب المنتشي المدرّعات. وألقيت الخطابات والهتافات الثورية دون خشية من قوات الجيش. لكن كالعادة سوّقت السلطة “معزوفة الحكمة” إلى الحبيب بورقيبة، “زعيم الأمّة والأب الحنون”.
وسعت إلى لملمة جراجها المثخنة بالبحث عن كبش فداء. فأقالت وزير الداخلية إدريس قيقة في 08/1/84 وحمّلته مسؤولية عدم القدرة على السيطرة على الأحداث. واستدعى بورقيبة رجل المخابرات زين العابدين بن علي واضعا حدّا لمهمته في بولونيا ليصبح مديرا للأمن الوطني. كيف لا وقد أغرق البلاد في حمام من الدم في 26 جانفي 1978.
دروس يمكن استخلاصها
1- إنّ تاريخ تونس الحديث هو، إلى يوم الناس هذا، تاريخ انتفاضات اجتماعية وسياسية عفوية غير مؤطرة تفتقر إلى القيادة السياسية الثورية، حتى وإن أفضت انتفاضة 3 جانفي 84 إلى تأسيس حزب العمّال الشيوعي التونسي. فهل تلتقط اليوم الجبهة الشعبية جيدا في ظرفها الجديد هذه الرسالة وترفع التحدي في القادم من الانفجارات وتقطع الطريق على قوى الردة التي ظلت تستثمر باستمرار نتائج انتفاضات لم تشارك فيها أصلا؟
2- إنّ البرجوازية التونسية هي برجوازية عميلة وهجينة لا تؤتمن بالمرّة على مصالح الشعب، سلطتها ضعيفة، ترتبك بسهولة في الانتفاضات وغالبا ما ينفرط عقدها، لكنها تقدّم، في كلّ مرة، كبش الفداء وتلملم جراحها وتعود بقوة وهمية متأتية من ضعف المعارضة الراديكالية وتشتتها.
3- إنّ كلّ الانتفاضات وآخرها ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي 2011 ظلّت تحيلنا على سرّ تلك الطاقات الجبّارة للجماهير الشعبية التي تندفع في كلّ مرّة بقوّة هائلة إلى الشوارع حاملة أحزانها وآمالها، متحدية جحافل العسكر والبوليس، دافعة حياتها ضريبة لمطالب لا تعنيها وحدها. وهو سر لا يدور حتما في خلد منظري التشاؤم والانتظارية الذين يحتقرون فعل الجماهير الكادحة والفقيرة ويغيّبون دورها التاريخي. إنّ تلك الجماهير هي محط ّآمالنا وطموحاتنا. فلنذهب إليها ونعوّل على قدرتها على التغيير الثوري.
4- إنّ شهداء الانتفاضات السابقة وعلى رأسها ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي المجيدة هم أمانة في رقاب الثوريين الذين لن يهدأ لهم بال ما لم تُفتح ملفات الاغتيالات وتتبع الجناة، إذ لا مصالحة ولا إفلات من العقاب. ولتتحمل كلّ مكونات المجتمع المدني المسؤولية في متابعة هذا الملف الحارق.
“صوت الشعب”: العدد 191
النّاصر بن رمضان
نقابي وعضو لجنة مركزية لحزب العمال