استمرت هذه الأيام، حملات التّحريض على الجبهة الشّعبيّة في علاقة بحركة الاحتجاج الاجتماعية التي يخوضها الشباب المهمّش والمعطّل عن العمل وفي مقدّمته أصحاب الشهادات العليا الذين يتجاوز عددهم الـ300 ألف والذين من بينهم من ظلّ ينتظر عملا منذ أكثر من عشر سنوات.
لقد شغّلت أبواق الرجعية بمختلف تلويناتها وعناوينها بطارياتها لتطلق نيرانها على الجبهة الشعبية وقياداتها. وقد اختارت تكتيكا تقليديّا، فهي تتظاهر شكليّا بالإقرار بشرعيّة مطالب الشّباب المعطّل عن العمل، ولكنها تلتفّ من جهة أخرى وبسرعة عن هذا الإقرار بالتّنكّر لحقّ هذا الشّباب، في التّحرّك من أجل الدّفاع عن حقوقه وفي مقدّمتها الحقّ في الشّغل، وباتّهام الجبهة الشعبية خاصة، والقوى الديمقراطية والتقدمية عامة، بـ”تحريض” هذا الشباب على “التظاهر والعنف والتخريب بهدف إسقاط الحكومة وإدخال البلاد في الفوضى الخ…”
لقد بدأت الحملة من فوق، من رئيس الدولة نفسه، الذي تدخّل لا لاقتراح حلول على الشباب، بل للتّهديد والاتّهام، التّهديد بالحلول الأمنيّة، واتّهام “أحزاب، بعضها معترف به وبعضه غير معترف به” بالتّحريض على “العنف…” تاركا المجال لـ”شرّاحه” كي يفسّروا كلامه “الغامض” ويحلّوا “عقده”، ويستنتجوا في النهاية أنّ الجبهة الشّعبيّة هي من يقصده “صاحب الكلام”.
وبعد الرّئيس جاء دور بعض زعامات حركة النهضة، فاتّهم البحيري الجبهة صراحة بـ”التّورّط في الأحداث” واتّهم وليد البنّاني أحد مكوّنات الجبهة وتحديدا حزب الوطد الموحد الذي وضع مع حزب المسار في نفس المستوى مع حزب التحرير بـالتحريض على العنف.
وفي الوقت نفسه خرج أحد رموز التكفير من كهفه، المدعو بشير بن حسن، ليحذّر التونسيات والتونسيين من “الشيوعيين الكفار” الذين “يبثّون ـ حسب زعمه ـ الفوضى والتخريب”. وبالطبع ما كان للإعلام الفاسد والإعلاميّين المأجورين أن يغيبوا عن المشهد. فقد حرّكهم مؤجّروهم، من أباطرة المال الفاسد والتّهريب والتّخريب ومن بعض أحزاب الحكم، لكي ينفثوا سمومهم وهم المعتادون على ذلك من عهد بن علي ويروّجوا الأكاذيب بشأن الجبهة الشعبية، مدّعين أنها تدفع الأموال لتحريض المنحرفين على التخريب والتكسير. إنّ هذا النّوع من الحملات ليس جديدا لا على الجبهة الشعبية ولا على الشعب التونسي، بل هو أصبح عبارة عن ردّة فعل غريزيّة للرّجعية التونسية. فكلّما انطلقت حركة اجتماعية احتجاجية إلاّ وقوبلت بالتّشويه واتّهم مساندوها ومؤيّدوها بـ”محاولة الانقلاب على الشرعية”، بل كلّما انطلقت حركة احتجاجية اجتماعية إلاّ وخرجت إلى الشّارع عصابات التّخريب والنّهب والسّرقة لتلقى مسؤولية ذلك على المحتجّين سلميّا وعلى القوى الثّورية والتقدمية التي تقودها وتسندها. وهو ما حصل هذه المرة أيضا، بعد أن حصل ذلك مرّات ومرّات سواء في عهد الدكتاتورية أو في عهد كلّ الحكومات المتعاقبة منذ سقوط بن علي. فقد انطلقت الاحتجاجات من القصرين بصورة سلمية، ثم عمّت بقيّة مناطق البلاد وحافظت إجمالا على طابعها السّلمي. ولكن سرعان ما خرجت العصابات لكي تنهب وتكسّر وتزرع الرّعب.
كما أنّها سرعان ما انطلقت أبواق الدّعاية الرجعية لتتّهم الجبهة الشعبية بكلّ الشّرور. وليس خافيا على أحد أنّ الهدف من ذلك هو تجريم التّحرّكات والطّعن في شرعيّتها وشرعيّة المطالب التي ترفعها وتشويه القوى الثورية والتقدمية وعلى رأسها الجبهة الشعبية، وإيجاد التّبريرات والتّعلاّت لقمعها، وفي الوقت نفسه تغطية فشل منظومة الحكم بأكملها، من برلمان وحكومة ورئاسة، في تحقيق الأدنى من استحقاقات الثورة وعلى رأسها الشغل الضامن للكرامة ومن ثمّة طمس الأسباب الحقيقية للتّحرّكات الاحتجاجيّة.
إنّ التحالف الحاكم ومنظومة حكمه هو المسؤول عن تردّي الأوضاع في بلادنا. فقد ظلّ يخدم مصالح الأقلّيّات الثّريّة والمافيوزية المحلية من جهة والشركات والدول والمؤسّسات المالية الأجنبية من جهة ثانية، ويدير ظهره لمطالب الشعب. وقد كانت الميزانية الأخيرة خير شاهد على ذلك. وهو ما دفع في الواقع الشباب إلى الاحتجاج. ولم تكن هذه الاحتجاجات مفاجئة بل كانت منتظرة، ولم يكن الشباب المعطّل في حاجة إلى تحريض أو “تهييج” كما يدّعي البعض. ولم تكن حركته في حاجة إلى قادح، فليس ثمّة من محرّض له على التّحرّك أقوى من الفقر والبؤس والبطالة، وليس ثمّة من قادح لتحرّكه أقوى من فشل منظومة الحكم القائمة في تقديم البرامج التي تلبّي طلباته الدنيا. أمّا أعمال العنف فقد أصبحت غالبية التونسيات والتونسيين على علم بها وعلى دراية بمن يحرّكها وبمن له مصلحة فيها سواء من الأجهزة أو من أعوان الأحزاب الحاكمة أو من أباطرة التّهريب الباحثين عن أجواء الفوضى لتحقيق مآربهم كما ذكرنا سابقا. ومن ثمة لم يعد من السّهل أن تنطلي عليهم الإشاعات والأكاذيب التي يروّجها المأجورون من الإعلاميّين.
كما أنّ كلّ هذه الحملات ليس لها أيّ تأثير في تصميم مناضلات الجبهة ومناضليها وإصرارهم على مواصلة المسيرة مع بنات شعبهم وأبنائه من أجل تحقيق مطالبهم المشروعة واستكمال مهام الثورة وفي مقدّمتها إرساء أسس اقتصاد جديد يوفّر لهم الشّغل والكرامة. وفي الختام فإنّ ما لا يدركه أعداء الشعب والوطن هو أنّ الحملات على الجبهة لا تزيدها إلاّ قوّة لأنّها تؤكّد أنّها تسلك الطّريق الصّحيح.