“نحن نريد امتلاك الذّكاء، وهذا يكفينا”… ما أجمل هذه المقولة وما أروعها. وهل يملك الإنسان ما هو أثمن وأرقى من الذكاء؟ فالذّكاء منهجيّة تجعل من صاحبه صائب الرؤية وعميق التحليل ودقيق الأهداف. هي منهجيّة تجعل من صاحبها عالما بقدراته ومخزونات نفسه ومدركا أيضا لنقائصه وسلبيّاته. فالمجتمعات الذّكيّة أو التي تريد امتلاك الذّكاء، تسعى دائما إلى استكشاف مكامن قدراتها وإمكاناتها، قصد استغلالها حتّى الحدّ الأقصى الممكن للتطوير كما تسعى إلى ضبط مواطن الإخفاق لمعالجتها. الذّكاء وعي بالواقع المادّي ولعلّه من الغباء بمكان أن يغفل مجتمع ما عن معرفة واقعه المادّي بدعوى أنّه يستطيع تجاوزه لأنّ ذكاءه يكفيه كي يعيش ويتطوّر ويرتقي. أو فلنقل – لنكن أكثر دقة – أنّه من الغباء تصديق مقولة أنّه من الذّكاء الاستغناء عن الإمكانات الماديّة المتاحة، مهما كانت بسيطة، والاكتفاء فقط بمقولة بناء العقول. فهذه المقولة تشبه إلى حدّ كبير مقولات روّجت لها الفئات المسيطرة في أوروبا عبر مفكّريها في القرون السابقة. مقولات تدعوا العمّال والكادحين إلى الاكتفاء بتخيّل جزاء يقدّم لهم في حياة أخرى يهديه لهم الربّ بعد أن يقضّي المرء سنوات عمره في خدمة غيره بقناعة واكتفاء… “كن طيّبا وقنوعا واعمل بجدّ وسوف يجازيك خالق هذا الكون، أمّا نحن فقد خُلقنا كي نكون ضمانة استقرار هذا الكون فلا تطلبوا منّا شيئا.” اليوم نشهد دعوات إلى عدم التفات الشعب التونسيّ إلى موضوع الثروات، لأنّ الثروة قد تعطّل بناء العقل التونسي… ماذا نفعل بذكائنا إذا لم يساعدنا على بناء حياة كريمة ترتكز على قاعدة ماديّة تُفرزها، متمثّلة في اقتصاد قويّ ونِديّ؟ بناء عقول حقيقيّة لا نريد ذكاء يساعدنا على لعب الشطرنج يا سادة، بل ذكاءً ينمّي ثروة هذه البلاد ويُشبع بطونا خاوية ويبني مدارس وجامعات تبني بدورها عقولا حقيقيّة. ذكاء ينشر المستشفيات والمصحّات ويكفي المثقف المبدع حاجته وحاجة أسرته من أساسيات الحياة وكماليّاتها. نريد ذكاءً يساعدنا على كشف من ينهبنا ومن يسرقنا ومن يأسر خيرات ترابنا وبحارنا – مهما كانت قيمتها- لخاصّة نفسه وأولياء نعمته. ولكن، من الواضح أنّ بعض من يدعونا إلى الاكتفاء بتنمية العقول – كمهمّة مجرّدة لا تأثير لها على واقعنا- يقصد بدعوته تلك حثّنا على لجم عقولنا ومنعها من الخوض في ما يعتبره أسياده النّاهبين من المحظورات. هم يدعوننا بذلك إلى بناء عقول لا سيادة لها على ذكائها، بل تكتفي فقط بتنفيذ توصيات من يقودها ويسيّرها في مقابل نيل جوائز الإطراء والإعجاب من سارقي الذّكاء في هذا الوطن. أتدرون ما هو الذّكاء بالنسبة إلى هؤلاء؟ إنّه ببساطة الاكتفاء بالعيش في عالم المثاليّات والخيال وعدم الخوض في أوحال الواقع والعمل على تغييره. وعلى عكس ما يروّج له “المثقّف العضويّ للفئة النّاهبة”، فإنّ المثاليّة الموهومة تتمثّل في انتظار موعد الرقيّ دون العمل على السيطرة على الثروة الماديّة. سيبقى ازدهار تونس خيالا في أذهان البسطاء ما لم يُتّخذ القرار بخوض معركة الثروات الوطنيّة وافتكاكها من أيدي المستغلّين. ولأنّ المستغِلّ يدرك جيّدا خطورة هذه المعركة عليه وعلى استمرار امتيازه فإنّه يكلّف “مثقّفه” مهمّة تهميش هذه المعركة وتمييعها ومن ثمّ شيطنتها. أيّ دور للمثقّف؟ عندما ترى “مثقّفا” يتجاهل مطالب الغالبيّة من الكادحين في العدالة في توزيع الثروة، ليكتفي فقط بالتركيز على من أبرز نعرة جهويّة غير واعية ومن ثمّ يروّج لها على أنّها محور المطالبات، اعلم آنذاك بأنّك بصدد “مثقّف” مرتبط عضويّا بطبقة النّاهبين. عندما تسمع صوت “مثقّف” يستهزئ بتحرّكات شعبيّة دون أن يتقدّم لنقدها موضوعيّا وعلميّا، فاعلم أنّك في حضرة “مثقّف” مرتبط بنفس طبقة النّاهبين. عندما يدغدغ أذنك خطاب طوباويّ يمجّد الذّكاء التونسيّ المتميّز ويرمي في نفس الوقت التطلّعات الشعبيّة – لنفس هذا التونسي، صاحب الذّكاء المتميّز- بالشعبويّة، فاعلم أنّك تستمع إلى “مثقف” مرتبط عضويّا بنفس طبقة النّاهبين. عندما يعدك “مثقّف” بجنّة لا تبنيها ثروات البلاد الماديّة، تأكّد بأنّ من وعدك سيغدر بك لصالح تلك الطّبقة النّاهبة التّي ارتبط بها عضويّا. عندما تقرأ مقولات عريضة عن عمق الحضارة التونسيّة وعظمتها، حضارة قرطاج وبني الأغلب والفاطميّين وغيرها، من أجل أن يجعلك تُفاخر بها في وجه أخيك الإنسان في ليبيا أو مصر أو الجزيرة العربيّة، ثمّ يعيدك فجأة إلى حجمٍ صغير لا يكاد يُرى في وجه القوى الغربيّة الدّاعمة للناهبين… اعلم أنّك تقرأ “لمثقّف” مرتبط عضويّا بتلك الطّبقة من النّاهبين. أين الذّكاء من كلّ هذا؟ الذّكاء هو أن لا نتوهّهم بأنّنا ننتمي إلى بلاد تحتوى على “خزائن علي بابا” والذّكاء أيضا أن لا نترك خيراتنا، مهما كان مقدارها، فريسة ينهبها غيرنا. فمن الحمق التّوجّه إلى الأغراب نمدّ لهم اليد السّفلى طلبا للمعونة قبل أن نعلم بالضبط ما هي إمكانات وطننا التي قد تغنينا ذلّ السّؤال. الذّكاء كذلك هو أن لا نهجر قضايانا المبدئيّة – بما فيها قضيّة الثروات الوطنيّة- لمجرّد أنّ غيرنا رفعها شعارا له. ألم يثبت التاريخ أنّ المثقّف الذّكي هو ذاك الذّي يلتحم بصفوف الجماهير – بما فيها غير الواعية- فيتأثّر بهمومها ويؤثّر في وعيها؟ فمن أوكد واجبات الأذكياء كشف المؤامرة التّي تحاك ضدّ هذا الشّعب كي يبقى فقيرا في واقعه ومغرورا في خياله. فتلك مؤامرة يحيكها النّاهبون ويؤصّل أهدافها في أذهان الناس بعض “الثقفوت” ممّن سُخّرت لهم الأبواق والكاميراوات لدخول البيوت. لقد آن الأوان للفرز بين الذّكاء الذّي يوجّه النّاس لخوض المعارك الحقيقيّة المؤلمة وذاك “الذّكاء” المغرق في الأمجاد الوهميّة، “ذكاء” بطعم الأفيون.
وليد سلامة