لا أحد في تونس يجادل في أنّ الوضع اليوم في تونس سيّء على كلّ الأصعدة. ولكنّ السؤال الذي تختلف الإجابة عنه من شخص إلى آخر هو كيف سيكون الوضع غدا؟
مردّ هذا الاختلاف هو الضبابية الكثيفة التي تلفّ الوضع الرّاهن وملامح المستقبل. فلا شيء يبعث على الارتياح. الاقتصاد في أزمة حادّة، والبلاد تبدو مهدّدة بالإفلاس، والمجتمع في حالة احتقان تُنبئ بالانفجار في كلّ لحظة، والدولة ضعيفة ومرتبكة، والفساد أتى على الأخضر واليابس، والإرهاب زرع سمومه عميقا في البلاد وأسكن في قلوب الجميع خوفا لا نظير له في تاريخ التونسيين والتونسيات.
ومردّ هذا الاختلاف أيضا هو الاحتمالات الممكنة في تطوّرات الوضع بحكم العوامل المذكورة وكذلك بالنّظر إلى التقلّبات الجارية في المنطقة العربية وعلى السّاحة الدولية. وأحد هذه الاحتمالات – قد يبدو للبعض أنه أخفّها ضررا على البلاد ولكنه في الواقع أخطرها – هو أن تستمر البلاد تحت حكم دولة عاجزة وفاشلة.
ماكينة تكرير العجز والفشل
لا أحد بما في ذلك مؤسّسات الحكم، رئاسة وبرلمانا وحكومة، يُنكر أنّ الوضع في تونس اليوم سيّء بكلّ المقاييس. ويكاد الجميع يُجمع على أنّ السبب في ذلك هو منظومة الحكم التي قادت البلاد بعد ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي.
هذه المنظومة سواء في عهد الترويكا أو في عهد المهدي جمعة أو في عهد الائتلاف الحاكم الآن، أصرّت واستماتت في السّير على خطى بن علي في معالجة مشاكل البلاد. فمضت تنفّذ إملاءات الخارج، دولا ومؤسسات، وتنتهج نفس الخطة التنموية القديمة، وتعوّل على برامج مفلسة زادت في تدهور الاقتصاد استثمارا وتمويلا وإنتاجا وادّخارا حتى بات اليوم مهدّدا بالإفلاس. وكلّ المؤشرات الرسمية المنشورة لا تنبئ إلاّ بهذا.
وجرّاء ذلك ظلّت انتظارات الناس معلّقة، بل ازدادت أوضاعهم سوءً. فارتفعت معدّلات البطالة والفقر وجميع مظاهر البؤس والفساد الاجتماعي والأخلاقي. وتردّت الخدمات الاجتماعية في الصحة والسكن والنقل والتعليم. وانتشرت الأمراض الاجتماعية كالهجرة والسرقة والكحولية والمخدّرات والانتحار، علاوة على العنف والإرهاب. وطبيعي أن تكون الأوضاع في مثل هذه الحالة مرشّحة للانفجار كلّ يوم.
وبقيت الدولة بكلّ مؤسّساتها تتخبّط في مشاكل لا تعرف كيف تتعاطى معها. بل أكثر من ذلك أبدت عجزا واضحا وفشلا ذريعا حتّى فيما كان بإمكانها أن تنجح فيه.
وإذا كانت الحكومة قد أظهرت عجزا وفشلا في إدارة شؤون الاقتصاد والمجتمع وتسيير دوائر أخذ القرار بالشفافية اللاّزمة مثلما أسلفنا قوله، فإنّ مؤسّسة الرّئاسة أثبتت بدورها أنها قاصرة عن أن تكون رئاسة لكلّ التونسيين ومحايدة عن الخصومات الداخلية لأحزاب الحكم وحزب النّداء على وجه الخصوص، وضامنة لحماية الوطن وحرمته وأمن الشعب والبلاد ولإعلاء شأن العدل والقانون.
ويتأكّد ذلك في مبادرة الرّئيس بتقديم مشروع قانون للعفو عن الفاسدين من أصحاب رأس المال وكبار الموظّفين القدامى في الدولة والإدارة. كما يتّضح في تصريحات الباجي خارج الديار التونسية الباعثة على التفرقة والفتنة بين التونسيين والمحرّضة لبعضهم على بعض، وأخيرا في إقحام أنفه في الشأن الحزبي وانتصاره لطرف دون آخر في شقوق النداء.
أمّا البرلمان الواقع تحت هيمنة الأغلبية الرجعية فقد تخلّف عن أداء مهمّتيه الرّئيسيّتين المتمثّلتين في تغيير ترسانة القوانين وفق مبادئ الدّستور الجديد من جهة وفشله في ممارسة رقابة فعليّة وقويّة على الحكومة المسؤولة أمامه عن كلّ ما تعيشه البلاد من مشاكل وما يتهدّدها من مخاطر.
مخاطر فشل الدّولة وعجزها
لا شكّ في أنّ استمرار الدولة التونسية في ظلّ حكم الائتلاف الحالي بفشلها وعجزها هذا ستنجرّ عنه مخاطر مضاعفة، مخاطر سيكون الشعب التونسي أوّل ضحاياها. ذلك أنّ هذا العجز والفشل سيؤدّي إلى احتدام الأزمة الاقتصادية. وفي هذه الحالة ستكون الدولة أكثر عجزا بالضرورة عن الاستجابة إلى الطلبات الاجتماعية وخاصة طلبات الشغل والعيش الكريم.
ومعلوم أنّ الاقتصاد المأزوم لا يقدر على تمويل هذه الطلبات، لأنه لا يقدّم الوفرة الإنتاجية اللاّزمة لتلبية تلك الطّلبات.
ومن جهة أخرى فإنّ عجز الدولة وفشلها سيدفع إلى مزيد الاحتقان وسيوفّر أكثر شروط التمرّد عليها ويهدّد الاستقرار الأمني والتعايش المنظم بين أفراد المجتمع. وبمعنى آخر فإنّ مثل هذه الظروف قد تمهّد لتنامي عمل الإرهاب والمجموعات العنيفة والجريمة المنظّمة والعصابات والاعتداء على الأملاك الخاصّة والعامّة. وفي كلمة ستختلّ الحياة الاجتماعية العاديّة ليسودها قانون الغاب.
وستتحوّل الدولة نفسها إلى ضحية لفشلها وعجزها، ذلك أنّ تكرّر الاحتجاجات وأعمال التمرّد سيضعف مؤسّساتها وسيحطّ من قيمة القانون وفعله في العلاقات العامة والاجتماعية بما سيشجّع أكثر على الاستهتار بالمؤسسات وبالدولة ككل. وقد أثبتت تجارب الشعوب الأخرى في العالم وفي الوطن العربي (لبنان مثلا) أنّ مثل هذه الظروف تمثّل مقدّمة للحروب الأهلية والتّطاحن الأهلي ولعودة النزاعات القبلية والعصبيات الأخرى. وفي أقلّ الأحوال يمكن أن تعطي للدولة الذريعة لتلتفّ على الحريات العامة والفردية وإلى عودة الحكم الاستبدادي باسم حماية النظام العام وحتى إلى الانقلابات العسكرية.
ويبقى الخطر الإرهابي هو أكبر مستفيد من هذا العجز والفشل على أكثر من واجهة ولأكثر من سبب. فهو ينتعش في ظلّ ضعف سلطة الدولة أو غيابها ويتمعّش من انتشار الفقر والخصاصة والبطالة والتّهميش.
إنجاز استحقاقات الثّورة هو الحلّ
إن تجاوز حالة الفشل والعجز لا تتمّ إلاّ بتحقيق أهداف الثورة. وبالتّالي فإنّ منظومة الحكم الحالية ليس أمامها من سبيل لتدارك أمورها سوى تغيير منظومة التنمية تغييرا جذريا والاستجابة إلى تطلّعات الشّعب التي ثار من أجلها على نظام بن علي والقضاء المبرم على الفساد واتّباع خطّة ثوريّة وجريئة في مقاومة الإرهاب بتجفيف منابعه والتعويل على الشعب وعلى مقدّرات البلاد المادية والبشرية وإصلاح مؤسّسات الدولة وأجهزتها وتمتين أسس الحكم الرشيد والديمقراطية ودولة الحق والعدل.
دون هذا لا مخرج للمنظومة الحاكمة الحالية من المأزق الذي تردّت فيه وحشرت فيه البلاد والشعب.
قوة الدولة وفعاليتها لا تتمثّل مطلقا في السياسة القمعية والتعسف والعمالة لمراكز النفوذ المالي والسياسي العالمية، وإنما في الحرية والديمقراطية والخيارات الاقتصادية الوطنية التي تلبّي حاجيات الشعب وفي صيانة السيادة الوطنية والاستثمار في الشباب والعلم والبحث وفي قيم الثقافة التّنويريّة والعصرية.