تعتبر القضية اللأمازيغية إحدى “التابوهات” السياسية حيث تختزل الحركة اللأمازيغية أحيانا في كونها حركة عرقية ذات دلالة هووية كما يقول محمد أركون. وهي في واقع الأمر إحدى أكثر القضايا التي عرفت تضليلا عبر التاريخ بحكم التأثيرات الكولونيالية التي عرفتها منطقة شمال إفريقيا من مصر إلى حدود جزر الكناري في قلب المحيط اللأطلسي.
لقد عرفت منطقة شمال إفريقيا العديد من الهجرات السكانية التي انصهرت في وعاء ثقافي واحد والتي أدّت إلى تشكّل هذا العنصر الأمازيغي. فكانت تونس ملتقى لمعظم حضارات العالم القديم في خضمّ هذا التّمازج والتّلاقي. وقد عرف الأمازيغ بمقاومة كلّ الغزاة ممّا أفرز ثقافة ثرية منفتحة. فحتّى تبنّي المسيحية لدى الأمازيغ كان في إطار مقاومة روما للمستعمر الرافض للمسيحية وحتى مع تبنّي الإمبراطورية الرومانية للمسيحية تبنّى الأمازيغ الدوناتية. وقد برز نخبة نيّرة ومثقّفون عظام في ظلّ تلك الحضارة فبرز أبولوس مؤلّف أوّل رواية في التاريخ، والملك يوبا الثاني الذي ألّف 65 كتابا باللغة اللاّتينية.
ومع غزو الأمويين لشمال إفريقيا قاوم الأمازيغ هذا الغزو العسكري، حيث رفضوا هذا الاحتلال الاستيطاني المتسلّط والغاشم دون رفض الدّين والمعطيات الثقافية الجديدة. وقاوموا هذا الغزو الأجنبي بكلّ ما يمثّله من ظلم وقمع. فقد كانت سياسة الأمويين تقوم على السبي والسلب والنهب لكلّ ثروات إفريقية. وقد تجلّى ذلك في رسالة الخليفة الأموي لواليه المعزول أبو المهاجر دينار لرفضه هاته السياسة حيث قال لخليفته أنّ البربر قد أسلموا ولا مجال لهاته الممارسات. فقام الخليفة بعزله مجيبا إياه بأن لا حاجة له بإسلامه بل له حاجة في ثرواتهم وسباياهم، ممّا يثبت أنّ الصّراع لم يكن دينيّا.
امتاز الأمازيغ بانقتاحهم الإنساني، فهم يعتبرون أنّ اللّغات والدّيانات مجال للتّبادل الإنساني والثقافي والحضاري بين البشر.
بالمحصّلة، فقد اصطبغت الهجرات العربية السكانية بالثقافة الأمازيغية في شتى المجالات الحياتية والثقافية كاللغة التي تحوّلت إلى لهجات هجينة بين اللغة العربية واللغات الأمازيغية، المآكل خصوصا في الأكلات المطبوخة ببخار الماء، والملبس والألوان والأذواق والأساطير والخرافات. وصارت كلّ تلك الثقافات العربية والأمازيغية منصهرة في بوتقة حضارية واحدة مكوّنة شخصيّة المواطن والإنسان المنفتح في بلادنا.
أمّا في الرّاهن الموضوعي كنتيجة حتميّة لمحاولات الامبرياليات اللاّعبة على تقسيم الشّعوب وإضعافها قد برزت تيارات وحركات تعنى بالهوية الأمازيغية في مجملها أو على الأقل بعضها ذات طبيعة برجوازية في عمق توجهتتها. ترتكز هاته الحركات على مفهوم حقوقي وهو حقوق الأقليات وأحيانا مطالبة بالاعتراف بالهوية الأمازيغية للشعب. هذا الفهم وإن كان فيه وجهة نظر، إلاّ أنه فهم قاصر لحركة التاريخ ولمفهوم التطور الإنساني باعتبار الإنسان كائنا ثقافيا بالأساس فهو مفهوم هووي ينفي على الإنسان ميزته في التّفاعل مع محيطه وتاريخه.
وفي المقابل كانت الاديولوجيا الرسمية للدولة أكثر سطحية واهتزازا وأداة طيّعة في يد الإمبرياليات. فهي كانت تارة ذات طابع عرقي لتبرير الاحتلال الأوروبي تدّعي فيه الأمازيغ أصولا أوروبية وفي طور الأنظمة العميلة والتابعة إلى معالجة خاطئة كالقول بالأمة التونسية مثلا دون الارتكاز إلى أيّ سند علمي أو دراسة أنتروبولوجية وأحيانا تسعى إلى تغييب أجزاء مهمّة من هذا التاريخ الإنساني، الوطني، الحضاري لحساب سياساتها الخاصة بها عبر أدواتها الإديولوجية كالإعلام ووزارة الثقافة ومناهج التربية والتعليم، ممّا يسبب خلق نوع من الشعور بالحيف والعنصرية خصوصا مع تهميش الدولة لكلّ من ليس في أجندتها السياسية. وكلّ هذا يشكّل خطرا على وحدة الشّعب.
وبصفتنا تقدّميّين نعتقد بضرورة معالجة هاته المسائل من زاوية ترفض التّعصّب والعنصرية وتشجّع على التّنوّع وعلى الحرية لذلك يجب إصلاح المناهج التعليمية والتربوية بما يتناسب مع العلوم الحديثة للتربية التي تجعل من الانفتاح الإنساني بوصلتها وتنبذ العنصرية مع ضرورة إعادة قراءة تاريخنا ومساءلته دون أي نظرة قداسوية حتى يكون لنا فهم أعمق بحركة التاريخ وبسياق تطوّرنا الإنساني.
أيوب الجلاصي