“الشغل استحقاق يا عصابة السراق”، الشعار المركزي لانتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008 والذي تحوّل إلى شعار من الشعارات الأساسية للمسار الثوري الذي انطلق يوم 17 ديسمبر 2010 وأفضى إلى إسقاط بن علي يوم 14 جانفي 2011، لخّص وكثّف تشخيص الشعب لخطورة الفساد وتداعياته على كلّ المستويات وخاصة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
لكن رغم أنّ مقاومة الفساد بكلّ تمظهراته كانت مطلبا محوريّا وهدفا أساسيا من أهداف الثورة التونسية، إلاّ أنّ كل الحكومات اليمينية-الرجعية، التي تعاقبت على الحكم بعد 14 جانفي 2011، لم تفتح هذا الملف ولم تجرأ على وضع خطة وطنية لمقاومته. بل يمكن القول إنّها هيّأت كل الظروف لإعادة انتشاره بشكل أخطر وأوسع في المجتمع، في المستويين الأفقي والعمودي، بل إنها أصبحت تعيش به وتتعايش معه.
ولعلّ تراجع تونس خلال الخمس سنوات الماضية في الترتيب العالمي للمنظمة الدولية للشفافية حول الفساد بأكثر من 15 نقطة ليستقر ترتيبها 79 عالميا يمثل دليلا واضحا على استفحال الظاهرة وتحوّلها إلى سرطان يأكل الأخضر واليابس.
وممّا يؤكّد هذه الحالة ما جاء في تقرير المعهد الوطني للقدرة التنافسية والدراسات الكمية على أنّ من الأسباب المباشرة لتراجع الاستثمار المحلي والخارجي استفحال ظاهرة الفساد وخاصة في المؤسسات العمومية وأجهزة الدولة، إذ تراجع المؤشر الفرعي المتعلق بالفساد لسنة 2015 من 0.643 إلى 0.582. ما يعني انتشار الفساد في الإطار المؤسساتي.
وفي هذا السّياق، فقد أكّد التقرير أنّ 30 % من المؤسسات أقرّت بكونها قدّمت رشاوي لمتدخلين عموميين للحصول على مشروع. لذلك فإنّ الفساد في تونس وانتشاره لم يعد مجرّد إشاعة، بل أصبح معضلة وسرطانا ينخر البلاد اقتصاديّا واجتماعيّا وسياسيّا وأخلاقيّا.
إنّ الفساد يتسبّب في خسائر اقتصادية تقدّر بحوالي 3500 مليون دينار سنويا. وهو ما ينعكس سلبا على الاستثمار وخلق الثروة والنمو بشكل عام.
وهو ما يعني مزيدا من الفقر والبطالة والتهميش، وتدهورا لظروف عيش المواطنين ومقدرتهم الشرائية. كما أنّ تفشّي الفساد له تأثير مباشر في الواقع السياسي من خلال شراء الذمم واستعمال المال الفاسد في الانتخابات للسيطرة على مؤسسات الحكم، وفي إرشاء العاملين بهذه المؤسسات وتوظيفهم لخدمة أهداف وأجندات رجعية، لا علاقة لها بأهداف الثورة.
وليس أسهل لإعادة إنتاج الاستبداد، من تحويل أجهزة الدولة إلى محضنة محورية لمنظومة الفساد السياسي والإداري والمالي. وهو ما يسبب نفور المواطنين من الاهتمام بالشأن العام، ويساعد الأقليات المافيوزية وأعوانها على التغوّل، ودوس حرية الشعب وحقوقه والسيطرة على مصائره. كلّ هذا دون ذكر الانعكاسات السلبية للفساد على أخلاق المجتمع وقيمه.
إنّ الفساد بهذا المعنى وبهذه التداعيات، يتطلب من كلّ القوى الوطنية والديمقراطية أن تجعل من مقاومته محورا أساسيا من محاور نضالها، وأن تعبّئ أوسع الفئات الشعبية ضده وضد الضالعين فيه في كل المستويات من أجل استئصاله، لأنّ بقاء الفساد واستفحاله لا يخدم إلاّ الاستبداد ومافيا السياسة والاقتصاد، ويحكم على تونس بالتخلف وعلى شعبها بالبؤس الأبدي.
ولا ينبغي الاعتقاد بأنّ الانتصار على الفساد أمر مستحيل كما يروّج لذلك البعض لتبريره وثني الشعب عن مقاومته ودفعه إلى التعايش معه وتحمّل انعكاساته المدمّرة. إنّ الانتصار على الفساد ممكن شرط توفّر الإرادة السياسية، بل مشروط بتوفّر برنامج وطني وديمقراطي وتقدمي يرمي إلى النهوض بالبلاد وتحسين أوضاع الشعب المادية والمعنوية ويقضي نهائيا على الاستبداد والاستغلال الفاحش والفساد.
“صوت الشعب”: العدد 198