الحبيب بيدة، فنان تشكيلي
ومدير المعهد العالي للفنون التشكيلية بتونس
قلّما تسنح الفرص للحديث عن مواضيع أكيدة ومؤكـّدة بالنّسبة لما يمرّ به مجتمعنا، وربما ما هو مدهش ومؤدّي إلى السؤال والتساؤل أنّ هذا الحديث عن هذه المواضيع ينفلت عن اهتمام نخبنا السياسية والثقافية وحتى الجامعية.
من هذه المواضيع – داخل المجال الثقافي السياسي لأنه يهمّ السياسيين قبل المثقفين باعتبارهم مبدعين – موضوع الإبداع، لأنّ الإبداع لا يهمّ المبدعين كمدرّبين وكمتقبّلين وكمستغلّين ومستهلكين بقدر ما يهمّ من أنتج لأجلهم. فالمبدع لا ينتج لمجتمعه، هذا المجتمع الضيّق والواسع الذي لا حدود لامتداده. لذلك من الطبيعي والمنطقي إن كان هذا المبدع يطلب الاعتراف بإبداعه ويطلب مقابلا باعتباره منتجا لقيمة مضافة حقوقا مواطنيّة، فعليه المطالبة بالحرية داخل إطار وعي ضرورة إبداعه.
تساؤلات إبداعيّة
أريد في هذه المقال أن أشير إلى بعض الخواطر التي كثيرا ما تنتابني كمنتج لما أدّعيه إبداعا وكمؤطر لطلبة يطمحون إلى أن يكونوا يوما مبدعين في مجال فنّ اتفق على أن تكون تسميته تشكيليا. وهو من فعل شكّل – أي فعّل الشكل وجعله فاعلا. أي إعطائه طاقة وقدرة على أن يكون له وقع إيجابي في حركة الحياة بكل ما يحتويه، حسّيا وجوهريا.
وكنتُ دائما وما أزال أتساءل عن ماهية هذا الفن وعن كيفيته وعن غايته في إطار الفعل الجماعي من أجل التقدم والتطور. هذا المصطلح الذي نصبو إليه ولكننا قلما نتساءل عن كيفية إدراكه، رغم أننا بفعل ثقافتنا وبفعل متابعتنا لتاريخ هذا الفعل أو تاريخيته في الحضارات المتعاقبة نعرف أنه كان سببا رئيسيا في تقدّم الإنسانية وخروجها عن طور الحيوانية. فبالإبداع أصبح الإنسان إنسانا. بل إنّ الإبداع هو الذي أبدع الإنسان. فكيف ننسى أنّ كلّ ما أضافه الإنسان وعجز عنه الحيوان هو في أصله إبداع. وعلينا أن ننحني إجلالا لمن صيّر الصّوت المطلق حرفا منطوقا، وبه صنع الكلام الذي يسمّى به الإنسان حيوانا ناطقا، وأن ننحني إجلالا لهذا الذكيّ الأول الذي جعل هذا المنطوق مكتوبا، وبه أصبح الإنسان كاتبا طوّع الخطّ ليكون وسيلة رمزية من أرقى وسائل التواصل، وبه تنمّي فكره ليسبح في شبكة العالم الرّحب وليصنع الأفكار ويوصلها إلى القريب والبعيد ولتصنع هذه الأفكار أساطير وفلسفات وأديان أراد بها أن يفسّر سبب وجوده وسط هذا الكون. لقد كان هذا الجهد الإنساني للمبدعين حرا. ولكنه كان ذا غايات وضمن ضرورات. وبذلك تقدّم الإنسان وأصبح ما هو عليه اليوم مخترعا لأعقد الآلات والوسائل التي لو ظهرت في زمان غابر لاعتبرت من المعجزات ولكان مخترعوها أنبياء ورسلا.
الفنّ التّشكيلي والتّقنية
ربما نقول ما دخل المذياع والطائرات والسفينة المكّوكيّة والمحمول وغيرها من المخترعات التي نستعملها اليوم ونتعامل معها في مجال الفن التشكيلي، أنه مرة أخرى النسيان لأنّ ما ذكرته هي أشياء حسيّة وليست جواهر ذهنية سبقها اختراع الأدوات والآلات التي أدّت إلى العمران الإنساني والمعمار بما يحتويه من أثاث وأواني وأدوات إنتاج ساهم فيه الذكاء التشكيلي الذي كان يصبو إلى إبداع النافع والجميل، أي الحسّي الذي يتطابق فيه الوظيفي والمعرفي.
الحقّ سمّي معرفة والخير بما هو توافق وتناسق وانتظام “أخلاقي” والجمال بما هو مكمّل للثالوث. ولنا أن نتناقش في المفاهيم الثلاث باعتبارها متحركة حسب المكان والزمان، ولكنها وإن تحرّكت فحركتها كحركة الأرض منتظمة ومتوازنة.
لقد نوقشت هذه المفاهيم، لكنها نوقشت من طرف من تعمّق في معانيها مريدا في ذلك تعديلها وفق تطوّر الزمان في علاقته بالمكان. لقد ناقشها العلماء والفلاسفة الذين تمكّنوا من منهجية النقاش ومنهجية التوليد ولم يكونوا اعتباطيّين في هذه المنهجية بل بالعكس هناك من جعل من الاعتباط منهجا في سبيل البحث عن معرفة ممكنة. لذلك تبقى المنهجية التي يسيّرها ويسير فيها الفكر عقلا من المبادئ التي لا يجب أن يحاد عنها، وإلاّ فسيسقط في “اللامعنى” في الهرتقطية. وأريدها هنا أن تكون بمعنى البدع – أي الأفعال التي لا تكون لها امتدادات إلاّ الفوضى التي ليست بخلاّقة. وهنا آتي إلى لبّ الموضوع وهي علاقة الحريّة بالإبداع.
لا حريّة دون إبداع
لا حرية دون إبداع، وإذا أردنا أن نتحدث عن الحرية فلا بد لنا من أن نتّفق على مفهوم الإبداع – وهو في معناه الإيتيمولوجي إبداء – أي الإتيان بشيء على غير مثال سابق. لكن أليس من حق الإبداع علينا أن يسألنا عن كيفياته وغاياته وهو يعلمنا عن طريق الإنسان أنه لم يكن اعتباطا أو عفوا. بل كان مدروسا ومطروحا كتقنية. وهكذا كان يسمّى في عصر الفلسفات الأولى، وكان صناعة وفنّا عند العرب أي أنه يتطلب حنكة وذكاء وحكمة تقنية تحمل تشكيلا، أو هي تفعل المادة لتصبح شكلا حاملا لوظيفة استعمالية أو تأمّلية ذهنية في خدمة الذات الصانعة المدركة لصنعها وبقية المدركين.
إذن الإبداع حرّ، ولكنه في ارتباط مع وعي ضرورات إشكالياته – صنعا وإدراكا – وبذلك يكون مقنعا ويتغلب على الذين يشككون في هذا الزمن عن ضرورته وفي بعض الأحيان يصل بهم الغباء إلى تجريمه وإعدامه.
وهنا نصل إلى حريّة الإبداع داخل المنظومة الفكرية المنغلقة والتي تتسلط على أمر لا تدرك معناه. وتحكم عنفا على مجال لا تفقه كنهه. وأقولها صراحة إنّ بعض الذين يسمّون أنفسهم مبدعين قد ساهموا في تجاوب بعض الجهلة مع أطروحات هؤلاء الأغبياء الذين يدّعون في العلم معرفة وهم لا يعرفون أنّ الخالق خالق الإنسان قد مكّنه من ملكات تتضامن مع بعضها البعض لتبلغ مبتغاها وهي المعرفة والاكتشاف. وفي هذه الملكات ملكة المخيّلة التي باستطاعتها أن تتخيّل ما تريد. فكيف يعترض هؤلاء الجهلة على معجزة الإنسان لما له من ملكات كامنة فيه، وأهمّها ملكة التصوير أي إعطاء الأشكال الذهنية صورا بحسب قبولها وعلى قدر استعدادها كما يقول التوحيدي. ومن وكلهم ليحكموا على حدود حرية هذه الملكات التي جعلها الخالق حرّة في تصوّر ما تريد.
ليس المجال واسعا لنفنّد ما جاء في مرجعيات هؤلاء، وهي مرجعيات غير مفهومة حتى وإن كانت صحيحة. وربما يبدو غباء إذا ناقشنا مسألة حرية الإبداع من ناحية تجاوبها مع الإيديولوجيا لأنّ الإيديولوجيا المحنّطة سواء كانت يسارية أو يمينية تعتمد على مشروعات ضيّقة لنا في أمثلة من التاريخ ما آلت إليه من فشل ذريع.
لكن، لكن ولكن، هذا لا ينفي أنّ الخطر الذي يواجه الذهن سواء ذهن المبدع أو ذهن المتقبّل هو الوقع الناتج عن إبداع ليس بإبداع حتى وإن تظهر بأشكاله الظّاهرة، الإبداع الهرتقطي المفتقد إلى المعنى والذي لا يحرّكه فكر ولا تدفعه غاية ولا تبلوره كيفية أي الذي لا ينتظم في مسار معرفي منتج للمعنى وهو يريد أن يبرّر شرعيّة بكلمة رنّانة تتوافق وشعارات زماننا الذي نعيش فيه هذه الكلمة الرنّانة هي الحريّة. وهي كلمة لا يُصبح لها معنى إلاّ في ظلّ الضّرورة أو في شمسها في أصحّ قول.