أسبوع مضى على ملحمة 07 مارس 2016 ببن قردان. وكأنّ “البنقردانية” كانوا ينتظرون تلك اللحظة التاريخية لتحطيم الصورة النمطية التي أسرتهم داخل إطار التجارة الموازية وسوق ليبيا، متناسية أنّ على تلك الأرض ما يستحق الحياة والتضحية.
بن قردان ستؤرّخ الحرب على الإرهاب في بلادنا بما قبل بن قردان وما بعدها، بالنّظر إلى حجم الهجمة الإرهابية وأهدافها المعلنة، وبالنظر إلى اللحمة بين الشعب والقوات العسكرية والأمنية التي حوّلت الإرهابيين لأوّل مرة إمّا إلى مطاردين أو قتلى أو أسرى.
ويمكن اختزال هذه اللحمة في ثلاثة مواقف رئيسية:
“بلادي قبل أولادي”
بمثل هذه الكلمات البسيطة والعميقة علّق السيد مبروك الموفق على استشهاد ابنته سارة الموفق التلميذة ذات الـ12 ربيعا، ليضيف أمام عدسات الإعلام وهي تصوّر منزله المتواضع “وطني قبل بطني”.
لا يستطيع الملاحظ لمختلف أطوار الحرب على الإرهاب في بلادنا أن يترك مثل هذا الموقف يمرّ مرور الكرام دون وضعه وجها لوجه مع مواقف بعض مكوّنات رأس المال المحلي والأجنبي الذي لا يترك عملية إرهابية تمرّ دون الإمعان في ابتزاز الدولة للحصول على مزيد من الإعفاءات الجبائية والمطالبة بالتسريع في المصادقة على مشروع قانون المصالحة الاقتصادية، بالإضافة إلى شيطنة المطالب الاجتماعية والتحركات الاجتماعية المطالبة بالشغل والعيش الكريم. هي مقارنة لا بدّ منها للكشف عن القاعدة الاجتماعية والاقتصادية للحرب على الإرهاب ومدى انخراط كلّ طرف وحجم التضحيات التي يقدمها.
“وأنت تعدّ الفطور فكّر بغيرك”
فوجئت قوات الأمن والجيش الوطنيين خلال الأيام التي تلت يوم 07 مارس بأواني الكسكسي وأباريق الشاي والقهوة تفد عليهم من كلّ حدب وصوب من أحياء بن قردان ومنازلها في موقف فريد أعاد إلى الأذهان لجان حماية الثورة التي سهرت على حماية المدن التونسية بعد 14 جانفي 2011. لقد جسّدت هذه الهبّة من أهالي بن قردان اللّقاء الموضوعي والذاتي بين أبناء الشعب سواء كانوا يرتدون الزيّ العسكري أو الزي المدني وانخراطهم في المعركة ضد الإرهاب حتى وإن كانوا يخوضون معركة التحرر الاجتماعي والاقتصادي من مواقع مختلفة. ولكنّ درس بن قردان كان ضروريا لاسيما حين نستعرض الأصول الاجتماعية لشهداء المؤسّستين العسكرية والأمنية حيث قدّمت عائلات الشهداء في أرياف تونس وأحيائها الشعبية درسا في التضحية والاستعداد لمزيد التضحية لا يقل أهمية أو نبلا عن الدروس التي قدّمها أهالي بن قردان وهم يزفّون شهداءهم.
“حرب على الإرهاب بحضور الجمهور”
جندي أو عون أمن يوجّه سلاحه إلى مواقع الإرهابيين وعشرات المواطنين يحمون ظهره ويرشدونه إلى مواقع تحصن الإرهابيين في مشهد أثار دهشة وسائل الإعلام المحلية قبل الأجنبية، وجعل العديد من الملاحظين يتندّرون بأنّ مقابلات البطولة الوطنية لكرة القدم تدور دون حضور جمهور، في حين تدور المواجهات العسكرية بحضور الجمهور. بل إن عدة شهود عيان أكدوا لنا أنهم حال سريان مفعول حظر التجول بمدينة بن قردان على الساعة السابعة مساء يلجؤون إلى شبكة التواصل الاجتماعي وأجهزة الهاتف للتواصل فيما بينهم وتبادل المعلومات وتزويد القوات العسكرية والأمنية بالمعطيات والمعلومات لتسهيل مهامها ليعودوا في الصباح إلى التمترس مع القوات الأمنية والعسكرية على نفس الخط.
ولم يحل انتماء أغلب الإرهابيين إلى مدينتهم دون مواجهتهم والتبليغ عن أماكن اختبائهم، ليجد الإرهابيون أنفسهم في عزلة، وتمّ القبض على بعضهم في وضعيات مزرية وقد أنهكهم الجوع والعطش بعد أن تبخّر حلم الحاضنة الشعبية التي بشّروهم بها في معسكرات التدريب.
لقد قال الشعب التونسي في بن قردان كلمته وحسم أمره ليعلنها حربا لا هوادة فيها ضدّ الإرهاب في صف واحد مع المؤسستين العسكرية والأمنية رغم تذبذب وارتخاء الإرادة السياسية للائتلاف الحاكم. بل إنّ سياسته الخارجية تسير في خط معاكس تماما لخط سير القوى الشعبية. أمّا في الداخل فإنّ توجهاته وسياساته التنموية تكرّس تهميش وتفقير الجهات والطبقات المفقّرة التي قدّمت درسا في التضحية رغم الانعكاسات الوخيمة لتلك السياسات عليها. وهو ما يعكس وعيا وطنيا متقدما لا يتردد في الدفاع عن السيادة الوطنية حتى وإن كانت سياسات السلطة تسير في الاتجاه المعاكس وتنذر بأخطار داهمة سيواصل الشعب التونسي وقواه الحية تقديم التضحيات. ولكن حين يعي أنّ السلطة الحاكمة والطبقات الاجتماعية المتمعّشة في ظلّها تحوّل تلك التضحيات إلى ثروات ومكاسب في خزائنها فإنه سيحسم أمره ويخوض معركته الرئيسية ضدّ مصّاصي دمائه وعرقه.
(صوت الشعب: العدد 201)