تمرّ هذه الأيام الذكرى 61 لإعلان استقلال تونس، الاستقلال الذي ظلّ هدفا غاليا ضحّت من أجله أجيال من الشعب التونسي قدّمت النفس والنفيس منذ تسلّل فلول الجيش الفرنسي من التراب الجزائري عبر جبال خمير بالشمال الغربي حيث “استقبلها” أحرار شعبنا بالمقاومة والرفض. لكن طبقة “الأعيان” الاقطاعيين المتربّعين على الحكم كان لهم رأي آخر، إذ أمضوا مع العسكر القادم اتفاقية بيع البلد سمّوها زيفا “اتفاقية الحماية” التي أُمضيت في قصر باردو يوم 12 ماي 1881 والتي خوّلت لفرنسا احتلال تونس لمدة ناهزت 65 عاما انتهت يوم 20 مارس 1956 بإمضاء “بروتوكول الاستقلال”.
هل كان الاستقلال فعليّا؟
قد لا يكون عديد الناس على علم أن بروتوكول 20 مارس مازال إلى حدّ اللّحظة سرّيّا ولم ينشر للعموم. وهذا في حدّ ذاته معطى يحمل عيد الدلالات لعلّ أهمّها أنّ في الأمر شيئا ما. إذ من المفروض أن تكون وثيقة الاستقلال عند أيّ شعب من الشعوب نيشانا على الصدور ونصّا وطنيا يُدرّس للأجيال ويعمّق لديها الروح الوطنية. لكنّ بلادنا عكست الآية، وهذا في تقديرنا يرقى إلى مستوى “جريمة الدولة” التي تصرّفت فيما لا تملك، والتي حرمت الشعب طيلة أكثر من ستة عقود من حقّه في الاطّلاع على وثيقة فارقة في تاريخه. وإن كان الأمر “مفهوما” ومبرّرا عند نظام بورقيبة الذي أمضى الاتفاقية وخبّأها، وعند سليله نظام بن علي، فإنّ الأمر يصبح مسترابا مع حكومات ما بعد الثورة وخاصة في عهد الترويكا التي رفع بعض مكوّناتها شعارات شعبوية، بل إنّ حزب المؤتمر رفع مطلب حقّ الشعب في الاطّلاع على اتفاقية 20 مارس، لكن حاكم قرطاج لثلاث سنوات ارتعشت يداه بمعية حلفائه رئيسي الحكومة والمجلس التأسيسي عن إطلاع الشعب على جزء من تاريخه، وبذلك أكّدوا جميعهم أنهم من طينة نظام حزب الدستور لا يختلفون عنه إلاّ في القشور.
إنّ السّبب في تقديرنا يعود إلى محتوى الاتفاقية الذي لم ينصّص على تحوّل السيادة كليا إلى تونس وشعبها، بل إنه قيّد الوضع الجديد بقيود امتدّت على عشرات الصفحات، شملت تواصل السيادة على جزء من الأراضي التونسية في بنزرت والمنطقة العسكرية في أقصى الجنوب في شكل قواعد عسكرية مغلقة، ومواصلة امتلاك المعمّرين الفرنسيّين لأراضي فلاحية وأملاك عقارية وغيرها في تونس، فضلا عن ارتباطات اقتصادية وسياسية وثقافية ودبلوماسية عميقة فيها إلزام للحكومة التونسية وتقييد لتحرّكها الداخلي والخارجي. وفي كلمة إنّ اتفاقية 20 مارس ليست سوى اتفاقية لتعويض الاستعمار العسكري باستعمار جديد، وتحويل الحضور الكولنيالي إلى حضور سياسي واقتصادي وثقافي، وهو ما ظلّ يتكرّس من 1956 إلى اليوم. فالبلاد تابعة في مجمل خياراتها، وقد ظلّ جزء من الأراضي التونسيّة محتلاّ إلى بداية الستينات حين خرج الشعب التونسي إلى فرض الجلاء على قوات المحتل في معركة بنزرت غير المتكافئة التي خاضها شعبنا بالصدور العارية. كما أنّ الجلاء الزراعي لم يتحقّق إلاّ سنة 1964. أمّا الارتباط السياسي بفرنسا فقد ظلّ ميزة النظام التونسي طيلة عقود، والخيارات الاقتصادية ظلت على الدوام مرتبطة بدول ومؤسسات السيطرة والتحكم الغربية. أمّا التبعية الثقافية للفرنكفونية فهي حقيقة جاثمة على شعبنا وبلادنا منذ ما قبل الاستعمار.
هل حقّق شعبنا وبلادنا الاستقلال؟
لقد رفض شعبنا الاستعمار وناضل ضدّه وقدّم التضحيات الكبيرة، وانتظمت لأجل ذلك كل أشكال المقاومة من السياسية والنقابية والثقافية وصولا إلى المقاومة المسلّحة التي عرفت ذروتها مع تجربة “الفلاقة” الذين شكلوا نواة فعلية لجيش تحرير شعبي تكوّن أساسا من جماهير الفلاحين والفقراء في الأرياف والمدن. لكن اتفاقية 1955 أو ما يسمّى بـ”الاستقلال الداخلي” حوّلت وجهة الصراع بين الشعب وقواه الحية من جهة والمستعمر من الجهة المقابلة، إلى صراع بين أبناء البلد ذاتهم، بين المقاومين وبين الخدم الجدد بزعامة بورقيبة الذي توصّل إلى إقناع بعض القادة الميدانيّين بتسليم السّلاح. وبعد عام وقع إمضاء بروتوكول 1956 الذي ساهم في حسم الأمر لصالح بورقيبة الذي واصل تصفية خصومه من رفاق الأمس بقيادة الأمين العام للحزب الدستوري صالح بن يوسف، ممثل الاتجاه الوطني في الحزب والحركة الوطنية، انتهت بتصفية بن يوسف في ألمانيا سنة 1962.
وقد كانت الفتنة كما سمّيت في الأدبيات السياسية فرصة لبورقيبة لفرض برنامجه بدء بخلع الباي يوم 25 جويلية 1957 وانتهاء بفرض نظام استبدادي دكتاتوري فردي نهل من معين الفكري الأبوي الذي حكم به إلى حين خلعه في 1987 من قبل وزيره الأول الجنرال بن علي. لقد فرض بورقيبة طيلة عقود حكمه نظاما شموليا انغلاقيا تمتّع فيه صحبة حزبه وأجنحته الأكثر فاشية بالاستفراد بالبلاد من خلال ترسانة قوانين قمعية ومؤسسات قهرية ضربت في العمق ما كان يتطلع إليه شعبنا إبّان نضاله الوطني ضدّ المستعمر. صحيح أنّ الدولة الجديدة حقّقت بعض المكاسب الاجتماعية خاصة التي تهمّ المرأة والتعليم وحلّ الأحباس وتوحيد القضاء..الخ. لكنّ الدولة الجديدة فشلت فشلا ذريعا في تحقيق الاستقلال الفعلي، إذ تواصلت التبعية التجارية والمالية وفي مختلف فروع الإنتاج للدول والمؤسسات الاقتصادية والمالية الاحتكارية عموما والفرنسية خصوصا.
كما ظلّت اللغة الفرنسية لغة ذات حضور مهيمن بمضامينها الحضارية والثقافية الرأسمالية. وظلّ التعاطي معها في شؤون التعليم والثقافة والحياة العامة من منظور التابع والمستهلك وليس من منظور المستقل والمنفتح والكوني. وقد رأى أجدادنا وآباؤنا بأمّ أعينهم أحلامهم وتطلّعاتهم تتبخر، ورأوا “قوادة وبيوعة” الأمس زمن الاحتلال، سادة للدولة الجديدة. ورأوا كيف أصبحت تُوزّع غنائم الحكم الجديد عليهم من ضيعات خصبة إلى مسؤوليات محلية وجهوية ومركزية، بل رأوا كيف أنّ قوّادة المستعمر أصبحوا يحملون “بطاقة مقاوم” وامتيازاتها من “رخصة لواج” إلى “رخصة كشك”، في حين أنّ عديد المقاومين الحقيقيّين الذين ضحّوا بالغالي والنفيس من أجل الاستقلال الفعلي لتونس ظلّ يعانون التشريد، وخاصة اليوسفيين والوطنيين الذين قضى بعضهم في “صباط الظلام” أثناء الفتنة أو بعدها بمناسبة “المحاولة الانقلابية”.
كما أنّ جهات بكاملها عوقبت لأنّ من أبنائها مقاومون أو معارضون لبورقيبة الذي بلغت به قمة النرجسية والأبوية اعتبار نفسه صانعا للشعب التونسي الذي لم يكن قبله أكثر من مجموعة أفراد حوّلهم بعبقريته إلى شعب.علما وأنّ نظام بورقيبة كان “عادلا” في توزيع القمع على كل خصومه من يوسفيين إلى يساريين إلى نقابيين إلى طلبة إلى حقوقيين وانتهاء بالإسلاميين الذين شجّع بروزهم لضرب خصومه اليساريين، وحين اشتدّ عودهم قمعهم. وهو نفس ما واصله سلفه بن علي الذي تعمّقت في عهده التبعية والدكتاتورية والفساد، ممّا راكم شروط الثورة التي دكّت نظام حكمه وخلعته يوم 14 جانفي 2011 المجيد، وقد اعتبر شعبنا أنّ استقلاله الفعلي سيكون مع الثورة والمنظومة الجديدة التي ستسود.
واليوم، ماذا تحقّق من الاستقلال المنشود؟
كانت ثورة شعبنا متماسكة في شعاراتها ومطالبها التي لخّصها شعار “شغل حرية كرامة وطنية” التي يحتوي كلّ واجهات النضال الاجتماعية والسياسية والوطنية. إلاّ أنّ مسار الثورة بعد خلع الدّكتاتور كان متعرجا ومنتكسا في جوانب عديدة وخاصة التي تهم مصير الحكم باعتباره هدف كلّ ثورة وكلّ نضال، ولئن نجح شعبنا نجاحا باهرا في نسج تجربته الثورية الخاصة التي أبهرت العالم وألهمت الشعوب، فإنّ نتائج الانتخابات في 2011 و2014 بمقتضى المسار السلمي لفض مسألة السلطة في تونس، أوصلت للحكم قوى لا علاقة لها بالثورة وشعاراتها ومطالبها ومطالب القوى الأساسية الاجتماعية والسياسية التي أنجزتها وقادت أجزاء منها. والدليل على ذلك هو التعمق غير المسبوق للتبعية وللمديونية وللفاتورة الاجتماعية الغالية على الكادحين والفقراء عموما.
لقد افتتحت حكومة النهضة عهدها بإمضاء اتفاقية الشريك المميز مع الاتحاد الأوروبي التي تعثر بن علي في إمضائها. كما أمضى السبسي ومستشاره السياسي محسن مرزوق مع واشنطن اتفاقية سرية كحليف استراتيجي للحلف الاطلسي (تُمنح للأتباع من غير الأعضاء). كما راجت عديد الأنباء عن اتفاقيات عسكرية سرية منذ حكومة النهضة الأولى مع الأمريكان لنقل “قوات الأفريكون” إلى تونس وتحديدا إلى الجنوب. كما انتقل مؤخرا قادة عسكريون امريكان وانقليز وألمان إلى الجنوب باسم “التعاون العسكري”. لكنّ الأجندات الخارجية والاقليمية أعمق من هذا.
وتعرف الدبوماسية التونسية في المدة الأخيرة مع حكومة التحالف اليميني بقيادة النداء/النهضة، أسوأ أيامها بالتحاق النظام بـ”التحالف الإسلامي للتصدي للإرهاب” بزعامة السعودية في إطار الحروب بالوكالة التي يخوضها النظام الوهّابي صنيعة الاستعمار، في إطار عمل دؤوب لإعادة تشكيل المنطقة من قبل الإمبريالية. وعرفت التبعية والاصطفاف الذليل لدول البترودولار بتصويت النظام في مجلس وزراء الداخلية والخارجية العرب لصالح تصنيف “حزب الله” المقاوم “منظمة إرهابية” في تحدي صارخ لثوابت شعبنا الوطنية والقومية والإنسانية. يتظافر ذلك مع الجولات المكوكية ذهابا وإيابا في كل الاتجاهات من قبل عتاة الصهيونية والإرهاب مثل جون ماكاين وكريستين لاغارد الذين يستقبلون بالأحضان في مقرات النهضة والنداء وأحزاب التبعية والخيانة الوطنية.
إنّ ما يقع اليوم يؤكّد أنّ مهمّة تحقيق الاستقلال مازالت مهمّة عالقة، وواهم من ينتظر تحقيق ذلك أو المحافظة عليه من قبل الأحزاب النيوليبرالية المرتبطة بالاحتكارات العالمية، من ذلك أنّ وزير التنمية والتعاون الدولي ورئيس حزب آفاق ياسين ابراهيم لم يتوان عن تكليف بنك فرنسي معروف بميوله الصهيونية لإعداد تصوّر حول البرنامج الاستراتيجي للدولة للخمس سنوات القادمة.
إنّ المسألة الوطنية وتحقيق الاستقلال الفعلي لتونس لا معنى له خارج اختيارات اقتصادية واجتماعية وسياسية وتنموية ودبلوماسية جديدة تقطع مع التبعية والمديونية والخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، خيارات تحقّق سيادة الشعب على ثرواته التي لا يعرف عنها شيئا. خيارات تكرّس عقيدة دبلوماسية جديدة تنحاز إلى قضايا التحرر والانعتاق ولا تنخرط في المحاور الرجعية والعميلة وتقيم سياسة خارجية تخدم مصالح تونس وشعبها. إنّ الاستقلال الفعلي لن بتحقق إلاّ على يد أبناء تونس الأبرار، أحفاد الدغباجي والجربوع وبن سديرة والحامي والحداد وحشاد وبن يوسف وآلاف الشهداء والمقاومين الذين آن الأوان للاعتراف بهم وردّ الاعتبار إليهم، وفي مقدمة ما يقدّم لهم هو نشر اتفاقية 20 مارس 1956 لعموم الشعب التونسي حتى يفهم ما حدث ويحدث، وحتى يربط حاضره بماضيه ليستعدّ لمستقبله.
علي جلّولي:
صوت الشعب: العدد 201 (الجمعة 18 مارس 2016)