عرف نظام المجالس البلدية، منذ إحداث أوّل مجلس بلدي بمدينة تونس، سنة 1858 من طرف محمد باي، تراجعا ملحوظا عطّل التحاق التونسيين بتلك المجالس التي كانت حكرا على الفرنسيين وبعض الأعيان الموالين للاستعمار الفرنسي. إلاّ أنّ بداية تعمّق المقاومة الوطنيّة وضغطها على المستعمر أدّى الى إقرار نظام اقتراع عام ومباشر سنة 1952.
تركيز نظام بلدي استعماري منافي لشروط المواطنة:
كان النظام المتّبع في تسمية أعضاء أيّ مجلس بلدي في تونس أثناء عهد الاستعمار المباشر أبعد ما يكون عن الاقتراع العام. بل إنّه عكس نزعة تراجع عمّا كان حاصلا في عهد الإصلاحات الدستورية. فقد أحدث محمد باي المجلس البلدي بمدينة تونس سنة 1858 وتمّ تعيين أعضائه عن طريق نظام الاقتراع المحدود. غير أنّ السلط الاستعمارية الفرنسيّة تراجعت عن هذا النظام بعد سنة 1881 وأرست نظاما بلديّا يشمل كافة البلديات المحدثة في كامل تراب البلاد ووحّدت فيه طريقة تكوين المجالس البلدية على أساس التعيين. وتراجعت بالتالي عن نظام الاقتراع المحدود المطبّق في بلدية تونس. وقد تسبّبت طريقة التعيين في ضعف التداول على المسؤوليّة البلديّة إذ يُجدّد للمسؤول البلدي بصفة آلية في أغلب الحالات. وتحوّل منصب عضو في المجلس البلدي في الكثير من الأحيان إلى منصب يشغله صاحبه مدى الحياة. بل كان حكرا على بعض العائلات التي تتوارثه فيما بينها. وبالطبع كان التّعيين والتّمديد يقتصران بالنسبة إلى التونسيين على الأعيان والموالين لفرنسا. وعلى هذا الأساس كان المعارضون السياسيون محرومين من الحقّ في المساهمة في شؤون المدينة. وقد مارست السلط الاستعمارية نفس السلوك تجاه الديمقراطيين الأوروبيين بمن فيهم الفرنسيين.
لا شكّ أنّ هذا الوضع له أسباب عديدة. فقد حافظت السّلط الاستعماريّة الفرنسيّة على النظام المتّسم بشدّة المركزة الموروث من عهد البايات وكرّسته في الهياكل المحدثة. وهي لم تكن تريد إقرار النظام الانتخابي في البلديات لأنّها ترفض وجود المعارضة بها تونسيّة كانت أو فرنسيّة. ومن ناحية ثانية سعت تلك السلط إلى التخلّص من وجود الإيطاليين في المجالس البلديّة. وكانت تخشى تحوّل الفرنسيين إلى أقليّة في المجالس البلديّة في حالة إخضاعها إلى الانتخاب، نظرا إلى ضعف عددهم مقارنة بالجالية الايطاليّة. وهو ما كان يهدّد التفوّق الفرنسي في نظرها. وفي نفس الوقت سعت السلط المذكورة إلى سدّ طريق البلديات على النخب المتعلّمة التونسية المتأثّرة بالدعاية المعارضة للاستعمار والتي يشغلها مطلب المساواة بين التونسيين والفرنسيين في المجالس البلديّة. ولذلك اختارت تعيين المستشارين البلديين من بين أعيان الرّيف وتجّار المدن الأقرب إلى الولاء وطاعة السّلطة. وتجدر الإشارة هنا أنّ البعض من هؤلاء التجار ارتبط نشاطهم الاقتصادي بالاقتصاد الرأسمالي العالمي وخاصّة الفرنسي وكانوا ينتمون إلى شريحة التّجّار الكبار، أطلق عليها بعض المؤلفين المعاصرين تسمية البورجوازية الكمبرادورية.
النّضال من أجل إقرار نظام بلدي يقوم على الاقتراع العام:
لقد أفرزت السياسة البلديّة التي انتهجتها السلط الاستعماريّة التقاء – وهو حالة نادرة جدّا- بين كافة الأطراف السياسية التونسية والفرنسيّة على قاعدة المطالبة بإقرار نظام بلدي يقوم على الاقتراع. ولكنّ أحزاب التفوّق الفرنسي كانت ترفض سحب الإصلاح البلدي المنشود على التونسيين. أمّا النخبة التونسية فإنّها لم تول مسألة البلديات المنتخبة أهميّة تذكر. وكانت مجلة المغرب الناطقة بالفرنسيّة أوّل من طرحها -على حدّ علمنا- سنة 1917 وأعيد طرحها في كتاب “تونس الشهيدة” الصادر سنة 1920.
وأدرج الحزب الحرّ الدستوري التونسي هذه النقطة في برنامجه سنة 1920. والتحق أعضاء المجلس الكبير بقسميه التونسي والفرنسي بموقف الأحزاب فطالبوا في دورة 1931 بإقرار نظام بلدي يقوم على الاقتراع العام.
ورغم هذا الإجماع فقد واصلت السلط الاستعمارية في مماطلتها وامتناعها عن التنازل عن جزء ولو طفيف من نفوذها على مستوى محلّي. وقد اقتضت تناقضات الاستعمار الفرنسي في تونس استمرار الوضع البلدي على حاله منذ صدور أمر 1885 المتعلّق بالتنظيم البلدي إلى نهاية الحرب العالمية الثانية وانتهاء ما يعرف بـ”الخطر الإيطالي”. ففي 1946 جرت أوّل انتخابات بلديّة في مدينة تونس دون غيرها من البلديات، ولكنّها لم تكن أفضل من انتخابات المجلس الكبير من ناحية نظام الاقتراع المختلف حسب الجنسيّة. فقد جرت على قاعدة الاقتراع العام والمباشر بالنسبة إلى الفرنسيين بينما خضع التونسيون إلى نظام الاقتراع المحدود الذكوري وغير المباشر. وزيادة على ذلك فإنّ هذا النظام يَحرم كافة المساجين السياسيين الذين لم يصدر في شأنهم قرار بالعفو من المشاركة في الانتخابات. وكان هؤلاء يعدّون بالآلاف آنذاك. من الواضح إذا أنّ السلط الفرنسيّة في تونس كانت ترمي من وراء تمييز التونسيين بمثل هذا النظام إلى تمكين الإدارة من التحكّم في نتائج الانتخابات وإقصاء المعارضين وتشجيع الموالين. وبالتّالي فصفة المعارض السياسي كانت عنوانا للحرمان من المشاركة في تسيير شؤون المدينة. بينما شكّلت صفة الموالاة المَعْبَر إلى المناصب والامتيازات. ورغم ذلك فقد وقعت عمليات تزوير واستغلال للنفوذ وإخلال بالقانون في الانتخابات مثلما كان يحدث في كافة الانتخابات الرسميّة أثناء عهد الاستعمار الفرنسي.
ارتباط مطلب الحرّيّة السّياسيّة بمفهوم السّيادة الوطنيّة:
وقد اضطرت السلط الاستعماريّة الفرنسيّة تحت ضغط الرأي العام الوطني الذي قاطع انتخابات 1946 بنسبة عالية جدّا إلى إقرار نظام الاقتراع العام والمباشر سنة 1952. غير أنّه اقتراع ذكوري بالنسبة إلى التونسيين ولم يشمل مدينة تونس التي يبدو أنّ السلطة كانت تخشى من انتقالها إلى صفّ المعارضة.
ورغم طابعه الديمقراطي فإنّ هذا الإصلاح البلدي لم يحظ بموافقة الأحزاب الليبيراليّة التونسيّة والحزب الشيوعي التونسي. فقد رفضت مبدأ السيادة المزدوجة ومشاركة الفرنسيين في المجالس البلديّة وقرّرت مقاطعة الانتخابات. وبالفعل فقد جرت الانتخابات في مناخ من اللاّمبالاة من طرف التونسيين وصاحبها توتّر شديد كان من أبرز مظاهره اغتيال عدّة شخصيّات قريبة من السلطة. وفي الواقع، كان هذا التصعيد من جانب الوطنيين جزءا من حركة المقاومة التي انطلقت سنة 1952 وأخذت أشكالا عدّة من بينها المقاومة المسلّحة. وفي هذه المرحلة من ميزان القوى بين الحركة الوطنية والاستعمار الفرنسي أخذت المسألة الوطنية الأولوية على كافة المطالب الأخرى. وبالتّالي فإنّ نظام الحريّة السياسية الذي طالب به المعارضون للاستعمار ارتبط في هذه الفترة بمفهوم السيادة الوطنيّة رغم أنّ هذا المفهوم لم يتجاوز بعد حدود الاستقلال الداخلي.
ويمكن أن نستنتج أنّ الاستعمار الفرنسي ركّز في تونس نظاما شديد المركزة لا وجود فيه لديمقراطيّة محليّة ولو شكليّة. وعندما أصبحت الانتخابات البلديّة ممكنة فإنّ الأنظمة الانتخابيّة التي وقع تطبيقها لا تحقّق شروط المواطنة التونسيّة ولا تستجيب إلى تطلّعات التونسيين في السيادة الوطنيّة. وبذلك ساهم النضال من أجل مجالس بلديّة منتخبة في إحداث التراكم الضروري للارتقاء بالوعي الوطني وطرح المهمة المركزيّة ألا وهي تحقيق السيادة الوطنيّة. ولنا أن نتساءل: هل تحقّقت تطلّعات التونسيين في التحرّر الوطني وفي الحياة الديمقراطيّة بما تعنيه من انتخابات حرّة سواء كانت نيابيّة أو بلديّة بعد حصول تونس على استقلالها السياسي سنة 1956؟
الدكتور خميّس عرفاوي
صوت الشعب: العدد 201 (الجمعة 18 مارس 2016)