استبشر التونسيّون في بداية الثّورة بتحرّر الإعلام من كابوس التّبعيّة للسّلطة التنفيذية ومواكبته لأوضاع الجهات والقطاعات والبلاد عموما، وتعبيره عن هموم الناس ومطالبهم المزمنة.
انفتاح الإعلام ومصداقيته ارتبطت برحيل الدكتاتور وضعف الدولة التي لم تستطع السيطرة عليه ولجمه أو تسخيره لخدمة الحكم.
لقد قطع التونسيون مع القنوات الأجنبيّة الشهيرة ليتواصلوا مع القنوات المحلية لأنها كانت تعبّر عنهم. وواكبت الواقع بمختلف آلامه وأمراضه وهناته، ورفعت عاليا أصوات الاحتجاج في الجهات المنكوبة التي طال تهميشها وفي القطاعات المنتفضة وغيرها. وحصل في تلك الفترة من النهوض الثوري حالة من الانسجام والتطابق بين إرادة الإعلاميين في لعب دور يليق بنبل المهنة وبين حاجة المواطن إلى تعبيرة حقيقية تعكس مشاغله وتطلّعاته.
الاستقرار السّياسي يُضعف الإعلام
بُعيد انتخابات المجلس التأسيسي وتشكّل حكومة الترويكا، سارعت هذه الأخيرة إلى الانقضاض على الإعلام والإعلاميّين الشرفاء وسمحت بالاعتداء عليهم وهرسلتهم وحاولت إخضاعهم بشتى الطرق دفاعا عمّا سمته بالإعلام الحكومي. ولعلّ التونسيين يتذكّرون جيّدا الخيمة الشهيرة التي نصبت أمام مقرّ التلفزة الوطنيّة لتطويعها وتسخيرها لخدمة المشروع الظلامي. لقد عاش الإعلام في عهد الترويكا أسوأ فتراته إلى درجة أنّ التونسيّين أصبحوا يخافون عودته إلى ما كان عليه في عهد المخلوع من تضييق وتكميم وتوظيف.
في مثل تلك الظروف وجد التكفيريون الفرصة سانحة للتعبير عن أنفسهم من خلال الحوارات والندوات السياسية وتغطية الأنشطة الدعوية في الساحات العامة، إضافة إلى تهاطل الدعاة الذين راحوا يبثّون الفتنة ويؤسّسون إلى حقبة ظلامية جديدة برعاية من حكومة الترويكا. فدخل المشهد الإعلامي في تلك الفترة مرحلة الارتباك وخدمة الأجندات الوهابية المموّلة خارجيا. لكنّه وجد في نفس الوقت بعض المقاومة من سياسيّي العائلة التقدمية وفي مقدمتهم رموز الجبهة الشعبية الذين فرضوا نوعا من الحضور السياسي الإعلامي وساهموا في صراع الأفكار والمواقف حول البرامج السياسية والهوية وخصوصيات المرحلة وعبّروا بوضوح وشجاعة نادرتين عن خطر المجموعات الظلامية المعادية للثورة وكشفوا عن حقيقة مشروعها التكفيري ومسؤولية الترويكا بقيادة حركة النهضة في ذلك. وقد كلّف ذلك الجبهة الشعبية اغتيال أبرز مؤسّسيها.
تراجع التّرويكا ونهوض الإعلام
أعاد تشكّل جبهة الإنقاذ وتنظيم اعتصام الرحيل وسيل المسيرات والندوات والوقفات ومجمل الضغط الشعبي الموجّه ضدّ حكومة الترويكا نوعا من التوازن السياسي بين القوى الأصولية من جهة والحداثية بمختلف تلويناتها من جهة أخرى. وخفّف الضغط على الإعلام الذي عاد إلى نقطة الانطلاق. فأصبح بالإمكان التعبير عن الرأي ونقيضه ونقد الحكومة أداء وبرامج والإشارة إلى مواطن الفساد والتحذير من محاولات العودة إلى مربع الاستبداد ودور الجماعات التكفيرية الموظفة من طرف الترويكا وروابط العنف المأجورة التي لعبت كلها دورا في إفساد الاجتماعات العامة والمسيرات الاحتجاجية في العاصمة وباقي المدن. لقد توفّرت مساحات مهمّة لنقد أداء الترويكا وعلاقتها بالثورة المضادة وبأزلام النظام السابق الذين أعادتهم إلى المشهد السياسي بهدف الاستفادة من “خبرتهم” والضغط من أجل دستور ديمقراطي يعبّر عن طموحات التونسيين، لعبت فيه المرأة دورا متميزا.
إلاّ أنّ هذه الفسحة من الحرية والاستقلالية لم تعمّر طويلا. فبمجرّد إقالة حكومة النهضة وتشكيل حكومة التكنوقراط برئاسة المهدي جمعة انخرط الإعلام في التطبيل لهذه الأخيرة وكيل آيات الولاء والتأييد، فجنّد أشباه الخبراء والمثقّفين والساسة بمن فيهم بعض أزلام النظام السابق. واشتدّ الهجوم على الأحزاب، الذين وُضعوا على اختلاف برامجهم ومسؤولياتهم، في نفس الخانة وحُمّلوا جميعا حكما ومعارضة نفس القدر من المسؤولية. فجميعهم فاشلون وعبدة كراسي لا يُرجى شفاؤهم.
وصُوّر المستقلون على أنهم منقذوا تونس. كما سوّق الإعلام لرحلات المهدي جمعة المكوكية إلى أمريكا وألمانيا وغيرها طلبا للقروض والمساعدات مقابل التبعية التامة والانضباط للإملاءات مثلما سوّق لمساعيه إلى رهن تونس لدى المؤسسات المالية العالمية النهّابة والانصياع إلى أوامرها المدمّرة على أنه “عين الحكمة والشجاعة” والسبيل الوحيد للخروج من النفق.
لقد أصبح “إعلام الثورة” منحازا إلى حكومة صندوق النقد الدولي مبيّضا لخياراتها اللاّشعبية واللاّوطنية ولإجراءاتها التخريبية وبرامجها ومخططاتها المفقّرة للشّعب تحت ضغط الخوف من العودة إلى مربع الترويكا.
الانتخابات تفرز إعلام “الحوانيت”
خلال الحملة الانتخابية لسنة 2014 انقسمت وسائل الإعلام بين مؤيد لنداء تونس ومشيطن للنهضة وآخر مدافع عنها ومندّد بنداء تونس التجمعي الذي كان يراد منعه من الترشح بقانون في إطار “تحصين الثورة”. وفي المقابل هُمّشت الجبهة الشعبية وبقية الأطراف التي لم تحظ بنفس القدر من التغطية في وسائل الإعلام.
لقد أنتجت هذه الانتخابات ما يسمّى بإعلام العائلة أو الإعلام المنحاز، حيث اصطفّت وسائل الإعلام وراء الأحزاب الكبرى وأصبحت تناصرها على المكشوف وتسوّق لمواقفها وبرامجها بحثا عن منافع وامتيازات، في حين انخرطت أخرى في مساعي “لمّ الشمل بين الفرقاء” الذين أسّسوا حملتهم على التهم والشيطنة المتبادلة خدمة لأجندات خارجية. وكان لشعار قائد السبسي الشهير “النهضة والنداء لن يلتقيا إلاّ بمشيئة الله تعالى” صداه المدوّي والمؤثر في الجماهير المكتوية برش سليانة وبطش الروابط المأجورة وسياسات التفقير والتمييز التي مارستها. إلاّ أنّ هذا الشعار سرعان ما سقط تحت ضغط التدخلات الأجنبية ومساعي الإعداد للالتفاف نهائيا على ثورة الحرية والكرامة.
لقد لعب إعلام ما بعد الثورة دورا أساسيا في خدمة الاستقطاب الثنائي ما مكّن النداء من الفوز بأكثرية المقاعد ولكن في نفس الوقت عودة حركة النهضة في المشهد السياسي بالحصول على المرتبة الثانية بعد أن أخرجها الشعب التونسي من الحكم.
الإعلام بين التّبعيّة والتّطبيع
بتشكّل حكومة الائتلاف الرجعي الحاكم بقيادة النداء والنهضة عاد “إعلام الثورة” إلى خدمة التحالف الرباعي بتمجيده واعتباره سبيلا لإخراج تونس من أزمتها الخانقة وبتغطية أنشطته المختلفة بما في ذلك صراعاته الداخلية التي لا تهمّ التونسيين والتسويق لقراراته وإجراءاته ورفع شعاراته – آخرها شعار الوحدة الوطنية- مهما كانت مغشوشة ومعادية لمطالب الثورة ولانتظارات التونسيين مقابل إهمال الملفات الأساسية التي تتعلق بالمنوال التنموي والسيادة الوطنية وسبل حلّ معضلة البطالة والفقر وتردّي الخدمات الأساسية وعلاقتها بالاختيارات الليبرالية التابعة.
“إعلام الثورة” أهمل قيادات الجبهة الشعبية وخبرائها الذين رغم مساهماتهم القيّمة في طرح البدائل والبرامج ومعالجة الملفات الحارقة لم يجدوا الطريق إلى فضائياتنا بالشكل المطلوب على الأقل كتعبيرة تمثّل جزءا مهمّا من الرأي العام الشعبي الذي يظلّ دائما بحاجة إلى الرأي والرأي الآخر حتى يحسن الاختيار.
“إعلام الثورة” أعاد إلى المشهد إعلاميّي بن علي وأزلامه من السياسيين وأشباه المثقفين و”الحقوقيين” الذين انخرطوا في الإعداد لضرب المنظمات الوطنية العريقة.
يبدو أنه دخل مرحلة التطبيع مع النظام القديم والبحث عن شراكة بينه وبين الحكم “الجديد” كسبيل وحيد للخروج بالبلاد من أزمتها الشاملة.
لذلك على الإعلاميين الشرفاء ومنظمات المجتمع المدني الانتباه إلى هذا الخطر الذي بات يهدّد الجميع. فتونس الثورة بحاجة إلى سلطة رابعة مستقلة، لا سلطة تابعة، تعبّر عن هموم التونسيين وتفتح الطريق أمام نهوض وتطوّر حقيقيّين يخدمان أهداف الثورة ويؤسّسان للجديد على أنقاض القديم.
“صوت الشعب”: العدد 203
علي البعزاوي: ع.لجنة مركزية لحزب العمال