صوت الشعب صوت الحقيقة
ونحن نحتفي هذه الأيام بالكتاب في “معرض تونس الدولي للكتاب” صُدِمنا بما تعرّض إليه الكتاب في أعرق المكتبات المتواجدة بالعاصمة والمقصود بذلك هو مركز الدراسات المنسوب إلى قرطاجنة” والمعروف “بمكتبة غاربلدي” الكائن بنهج غاربلدي. وهي مكتبة جامعية ساهمت في تكوين آلاف الطلاب والأساتذة والباحثين منذ تاريخ تأسيسها سنة 1957 ووفّرت لهم أمهات المصادر والمراجع في مختلف الاختصاصات وخاصة في مجال الفلسفة والآداب والعلوم والقانون، بما جعلها محطّة ضرورية في حياة كلّ طالب أو باحث يقصدها طلبا للمعرفة والهدوء المفروض على روّادها. وتشهد على ذلك مئات الأطروحات والبحوث الجامعية التي وجدت في مكتبة غاربلدي ما يفي بحاجتها من مراجع تفوق حتى تلك التي نجدها بالمكتبات الجامعية والمكتبات العمومية، إضافة إلى الرعاية التي كان يلقاها كل رواد المكتبة سواء من مديرتها السابقة الفقيدة Yvonne Le Blaye التي كرست كل حياتها لخدمة الكتاب والطلبة والباحثين أو ممّن خلفها في هذه المهمة وعلى رأسهم الآنسة بسمة الطبيب الأمينة الحالية للمكتبة التي لا تبخل على زائريها بالتوجيه والمساعدة وإتاحة المعلومة.
ما نشر على الصفحة الخاصة لمكتبة غاربلدي، بتاريخ 28 مارس الجاري، يوضح ما يتعرض إليه هذا المركز المميز للأبحاث، الموجود في قلب العاصمة والذي احتضن أجيالا من الطّلبة والباحثين، من تلويث لفضاء المطالعة والمراجعة والدراسة والبحث وإزعاج متواصل للباحثين والمدرسين الباحثين. فالضّرر لا يتمثّل فقط في روائح الفحم والشيشة والسجائر المنبعثة من المقهى في أروقة العمارة التي تسدّ أنفاس سكّانها وزائريها، بل أيضا في تعنّت صاحبه وإصراره على استعمال مضخّمات الصّوت والموسيقى الصّاخبة، دون أدنى اكتراث بالأذى الذي يلحقه بالطّلبة، معتبرا ذلك “حقا من حقوقه” المكتسبة.
أمام هذا الإعتداء، سارع رواد المكتبة بتنظيم وقفة احتجاجية تضامنية، صبيحة يوم الثلاثاء 29 مارس، خاصة بعد أن علموا تعرّض أمينة المكتبة إلى العنف الجسدي واللفظي من بعض العاملين والعاملات في المقهى المذكور ومحاولتهم تعنيف بعض من هبّ للدفاع عن المكتبة وعن الحق في الهدوء وفي بيئة نظيفة بعيدا عن روائح “الشيشة” وصخب مضخمات الصوت.
“أنا غاربلدي”، “أنا أقرأ إذن أنا موجود”، “أطالب بالهدوء”… هي أبرز الشعارات التي رفعها المحتجّون على الهجمة البربرية التي تعرضت إليها المكتبة والمشرفات عليها مطالبين السلطات المعنية بالموضوع إلى وضع حد لهجمة “الشيشة” و”الدسيبال” على عقول القراء وطالبي العلم والمعرفة. ولعلّ أفضل تعبير عن ذلك ما جاء في كلمة أمينة المكتبة وفي مطالب وشهادات المتضامنين الذين وقفوا على فضاعة ما تتعرّض إليه هذه المكتبة العريقة من اعتداءت متواصلة منذ عدة شهور من قبل أعداء العلم والكتاب. وقد شارك في وقفة المساندة والتضامن مع مكتبة غاربلدي والمشرفات عليها عدد من أساتذة وطلبة ومحامين ونشطاء المجتمع المدني ومن قدماء مكتبة غاربلدي وبعض من الإعلاميين. كما انظّم إلى المشاركين في الوقفة الاحتجاجية مجموعة من أطفال إعدادية نهج لينين وتعاطفوا معها.
إلى جانب الوقفة الاحتجاجية، أطلق عشّاق الكتب والمطالعة ومرتادو المكتبة العريقة “غاريبلدي” من طلبة وجامعيين ومثقفين حملة “أنا غاريبلدي”، وذلك على خلفية الاعتداء الذي تعرّض إليه المشرفون على المكتبة من العاملين بالمقهى المحاذي لها. هذه الحملة، التي انطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي، تلقى رواجا كبيرا في صفوف من احتضنهم فضاء غاريبلدي طوال سنوات الجامعة والبحث. كما عبّرت عدّة أطراف من المجتمع المدني عن إدانتها للاعتداء الذي تعرّضت إليه مكتبة غاربلدي والعاملين بها.
إنّ ما لحق أعوان مكتبة غاربلدي ومسيراتها من تعنيف جسدي ولفظي وإزعاج لروادها يكشف أنّ هذا المعلم الثقافي والتاريخي، الذي ساهم في تكوين أجيال من الأساتذة والباحثين والمفكرين، ليس في مأمن من الاعتداءات. ويبقى في حاجة إلى الحماية العملية والقانونية. وفي قضية الحال، فإنّ الأمر يفترض مراجعة الترخيص الذي تمّ بمقتضاه فتح المقهى، خصوصا وأنّ الفصل التّاسع من كرّاس الشّروط الخاص بالمقاهي صنف أ والتي تشمل المقاهي وصالونات الشّاي ينصّ على ضرورة أن يكون المبنى الخاص بالمقهى مستقلاّ أو أن يكون طابقا أرضيّا في عمارة غير سكنيّة وأن يكون للمقهى باب مستقلّ. وهذه الشروط أو المقاييس لا تتوفر في قضية الحال.
إنّ هذه الوضعية تدفع الى التساؤل حول كيفية حصول صاحب المقهى على رخصته؟ ومن منحها إيّاه ومن يقف وراء هذه الصفقة؟”
وفي هذا السياق، أشار بعض رواد المكتبة من الباحثين المختصّين في القانون التجاري خاصة إلى أنّ إسناد مثل هذه الرّخص يُعد من التجاوزات القانونية الخطيرة التي تخفي شبهة فساد، خصوصا وأنّ وجود المقهى في هذا المكان بالذات يتعارض مع مثال التهيئة العمرانية الخاص بهذه المناطق والذي يفترض عادة توفّر مركّبات أو مقاسم مخصّصة للتّجارة أو أحياء تجاريّة على عكس العمارة التي تأوي مكتبة غاريبلدي منذ عشرات السنين، إلى جانب حضانة مدرسيّة وشقق سكنيّة وهو ما يعني مخالفة كراس الشروط المعمول به حاليا من أجل أن تنتشر مقاهي الشيشة ومباريات كرة القدم والتّضييق على المكتبات.
