أولاد أحمد.. رحل الشّاعر وبقي الشّعر
“ولو قتّلونا
كما قتّلونا،
ولو شرّدونا،
كما شرّدونا،
لعدنا غزاة لهذا البلد…”
رحماك يا محمد،
رحماك شاعرنا الثائر، العظيم،
رحماك أخا وصديقا ورفيقا…
أيا زهور،
أيا كلمات،
أيا ناظم،
أيا أهل محمد الصغير القادمين من البعاد،
أيا أخواتي وإخوتي،
أيا صديقاتي وأصدقائي،
أيا رفيقاتي ورفاقي،
يوم أمس الخامس من شهر أفريل 2016، توقّف عن النّبض، بعد صراع طويل مع المرض، قلب الشاعر الكبير محمد الصغير أولاد أحمد. توقّف عن النبض ساعات قليلة بعد أن احتفى شاعرنا بربيعه الحادي والستين، وكأنّي بملاك الموت أمهله، باتّفاق مسبق، تلك السّاعات، كي لا يرحل قبل الاحتفاء مع الأحبّة والأصدقاء بعيد ميلاده الأخير في هذه الدنيا…
ولا أخال الموت لا يخشع أمام الشعراء العظام، فهم الباقون الخالدون بأرواحهم المبثوثة في لفظهم ومعناهم، حتى وإن غابت أجسادهم. بل لا أخال الموت لا يخشع أمام شاعرنا أولاد أحمد، وهو الذي انتصر على الغياب مسبقا، بأن افتكّ لنفسه مكانا أبديّا في الحياة، بما ترك من أثر، وهو يلتحق بلفيف الشّعراء العابرين للأزمان الذين لم يطوهم النسيان كما طوى الملوك والرؤساء والوزراء الذين عاصروهم وربّما اضطهدوهم أو حتى أهدروا دماءهم…
رحل أولاد أحمد وبقي شعره، يفوح في كافّة أرجاء الوطن، شعره الذي امتزج على مدى العقود الأربعة الأخيرة بآلام تونس، وأتعابها، بانتصاراتها وانتكاساتها، بانتفاضاتها وثورتها، فعجنت أشعاره بتربة الوطن، فكانت، إلى حدّ كبير، التعبير الأدبي والفنّي عن كلّ المراحل المفصليّة من تاريخه، في هذه العقود الأربعة، من زمن بورقيبة، إلى حدّ الساعة، مرورا بزمن بن علي وزمن “الترويكا”…
إنّنا لا نجازف ولا نغالي إذا قلنا إنّ أشعار أولاد أحمد ونثريّاته الفنّية، “نشيد الأيّام الستّة”، “ليس لي مشكلة”، “جنوب الماء”، “الوصيّة”، “القيادة الشعريّة للثورة التونسيّة” وغيرها تؤرّخ كلّها للمراحل الكبرى من هذه العقود الأربعة، التي ملأتها الأنظمة المتعاقبة، ما قبل الثورة وحتى ما بعدها، قمعا وظلما واستبدادا وفسادا وميزا واستغلالا، فواجهها الشاعر واقفا، لا ينحني…
لقد امتزج أثر أولاد أحمد امتزاجا كاملا بهموم الوطن والشعب، بهموم العرب والإنسانيّة قاطبة… لم يكن الجالس على الربوة، بل كان الحاضر دوما في كلّ حراك، الفاعل في الكليّات والتفاصيل… كان في حرب دائمة مع الاستبداد والاستغلال والظلام، لا يُنهي معركة حتى يبدأ أخرى، شجاعا، جريئا، جسورا، مدافعا عن الوطن، “تونسيّا مرّة واحدة، تونسيّا دفعة واحدة”، “ولو قتّلوه كما قتّلوه ولو شرّدوه كما شرّدوه” هو ورفاقه الثائرين على الدوام، لما تابوا عن حبّ هذا الوطن ولعادوا إليه غزاة.
كان نصيرا للفقراء والمظلومين، ذائدا عن حقوق العمّال والنقابيّين، “نقابيّا ومعترفا”، حبيبا للنساء، “نساء بلادي نساء ونصف”، مدافعا عن المهمّشين، وعن الأدباء والفنّانين والمبدعين. كان منتصرا لفلسطين، “حجر ينادي يا حجر…هذي بلادي… وأنا وحيد كالحجر”، وللإنسانيّة التقدّمية جمعاء، لا يسلم من لسانه وقلمه جائر أو مستغلّ أو فاسد، ولا من أدعيته تاجر دين أو متلبّس بلبوس الله فوق الأرض، فهو الطالب من الله أن يعينه عليهم جميعا، وأن يبعث لهم بطير أبابيل… يرشقهم بحجارة من سجّيل…
كان أولاد أحمد لا يؤمن بالهزيمة، فأشعاره ونثريّاته مفعمة بالأمل، مؤمنة بحتميّة الانتصار… ففي أحلك الظروف التي عاشتها بلادنا وشعبنا قبل الثورة وبعدها، وفي الوقت الذي كانت عزائم الكثيرين تنهار، ويذهب في اعتقادهم أنّ الاستبداد استوطن بيننا إلى الأبد، أو أنّ الظلام انتشر واستبدّ بالبلاد، كان هو يرى دائما نقطة الضوء في آخر النفق، لا يتزعزع إيمانه بقوّة الشعب، المارد الجبّار، منشدا بلغة الواثق:
“الرّيح آتية…
وبيوتهم قشّ…
والكفّ عالية…
وزجاجهم هشّ..
لا تحزنوا أبدا…
يا إخوتي أبدا…
إن شرّدوا طيرا…
يمضي له العشّ.”
لقد آمن أولاد أحمد بدور الفكر والثقافة في صقل روح الشعب وتهذيبها ودفعها باستمرار إلى الأمام. فلا وقت عنده لصرف الكلمات في غير محلّها، بل لا وقت عنده لصرف الكلمات في غير الارتقاء بوعي الشعب والإنسانيّة والمضيّ بهما إلى الأمام. لذلك كره أولاد أحمد الكذب والتزلّف والنفاق والجلوس على الربوة والخداع، فكان كالريح العاتية تكنس ما لا وزن له في الأرض، فكسب حبّ الصادقين واحترامهم وجلب إليه نبال الآكلين من كلّ الموائد…
اعتُقل أولاد أحمد وسُجن، وجُوّع وشُرّد، وشُهّر به، وكُفّر، وعُذّب، ومُنع. لكنّه لم يطأطئ رأسه، وآمن بالثورة فعاشها وهي تعتمل، وعاشها وهي تنطلق من مسقط رأسه، سيدي بوزيد الأبيّة، وعاشها وهي تمتدّ إلى كافّة ربوع تونس لتُسقط في النهاية الطاغية والطغيان، وعاشها وهي تتعرّض إلى الالتفاف، فدافع عنها ضدّ المتربّصين بها مؤمنا ألاّ مستقبل للظلام والظلمات والجور. ورحل وهو يوصي بـ “أن صونوا ثورتكم” و”لا تحيدوا عن الطريق”، بل سيروا فيها دائما للوصول إلى المبتغى:
“لا بدّ من أمر نحاوله معا…
في كلّ حالات الطريق…
سَعة وضيق…
سِعة وضيق…
لا بدّ من معنى دقيق…
لا بدّ من مبنى أنيق”.
يا أخواتي ويا إخوتي
يا رفيقاتي ويا رفاقي
لنحبّ بلدنا كما أحبّها أولاد أحمد، ولننتصر لشعبنا وللإنسانيّة كما انتصر إليهما، ولندافع عن الكادحين والفقراء والمظلومين كما دافع عنهم، ولنردّد باستمرار كما ردّد “نساء بلادنا نساء ونصف”، ولنجعل من حريّتنا وكرامتنا، كما جعل منهما، الخطّ الفصل، الخطّ الأحمر…
أوصاكم أولاد أحمد خيرا بوطنكم، بشعبكم، بشباب بلدكم ونسائه… فكونوا في مستوى الوصيّة…
سنفتقدك يا محمد الصغير،
“صباحا،
مساء،
وقبل الصباح،
وبعد المساء،
ويوم الأحد…”
ولكنّنا لن نحيد عن الطريق، وسوف يبقى صوتك الهادر وكلماتك الجارفة ومعانيك الضاربة تضيء لنا الطريق…
رحماك يا محمد… ها إنّك تنام على بعد أمتار من شكري ومن البراهمي وبن يوسف وغيرهم من شاغلي روضة الشهداء…
فنم قرير العين ولا تبالي،
عهدا…
عهدا…
لن ننسى …
وسنحفظ الوصيّة…
تونس في 6افريل 2016