يعاد هذه الأيام طرح موضوع ظنّ العديد منّا أنه طُوي إلى الأبد. هذا الموضوع يهمّ التعاطي الأمني مع الاحتجاجات الشعبية. ظنّ البعض أنه طُوي بمقتضى المكاسب العملية التي حقّقها شعبنا في علاقة بحقّه في ممارسة حقوقه والتمتع بها، وهو الذي قدّم النفس والنفيس من أجل ذلك، شعبنا الذي ناضلت طلائعه لعقود متتالية من أجل الحرية السياسية التي كانت زمن الدكتاتورية بعهديها حلما يئس العديد من تحققه بحكم التغوّل اللاّمحدود لأجهزة الأمن التي ظلّت لعقود هي الأداة التي يحكم بها نظام حزب الدستور قبضته الحديدية على البلاد.
الاحتجاجات تُقابل بالعصا
واليوم وبعد خمس سنوات من إسقاط الدكتاتور بن علي الذي ارتبطت بفترة حكمه بالإطلاق غير المسبوق لأيادي البوليس، يبدو أنّ العجلة بدأت في الدوران إلى الوراء، وخاصة في المدة الأخيرة، بمناسبة التحركات الاحتجاجية في جزيرة قرقنة التي قوبلت بالعصا الغليظة، وبمناسبة تحركات المعطّلين المفروزين أمنيّا الذين تعرّضوا إلى الضرب المبرّح على قارعة الطريق ومنعوا من الوصول إلى ساحة القصبة لتنظيم وقفة احتجاجية. ولم تستثن عصا البوليس وتهديداته على الشاكلة النوفمبرية حتى أعضاء مجلس نواب الشعب. وهو ما وقع تكراره منذ يومين بمناسبة مواصلة احتجاجات ذات الفئة، وطال القمع تحرّكا مدنيّا سلميّا انتظم يوم الثلاثاء الماضي بالكاف بدعوة من منظمات وطنية وأحزاب معارضة للمطالبة بحق الجهة في التنمية، علما وأنّ عصا قوات الأمن طالت منذ مدة شباب مدينة الدهماني على خلفية تحركات احتجاجية.
مؤشّرات خطيرة
وقد صاحب هذه الأحداث جدل في الساحة السياسية والاجتماعية بين من يعتبر ما يحدث يحمل مؤشرات خطيرة تنبئ بعودة أسلوب قمعي فاشي في إدارة شؤون البلد، وبين من يدافع عن سلوك أجهزة الدولة باسم الحق في ممارسة القوة المشروعة دفاعا عن الدولة والمجتمع.
ولم يتردّد كمال الجندوبي ذو الماضي الحقوقي بأن يعتبر سلوك الدولة تجاه احتجاج أهالي قرقنة، سلوكا عاديا في أيّ نظام ديمقراطي، وهو ذاته ما ذهب إليه نور الدين العرباوي القيادي بحركة النهضة الذي اعتبر ما جرى في قرقنة يشابه ما تقوم به الحكومات الديمقراطية والأمن الجمهوري، والدليل على ذلك أنّ عدد من نُقل إلى المستشفيات لا يكاد يُذكر. وهذا دليل على السلوك المتمدّن لقوات الأمن التي تحكّمت في استعمال القوة (القناة الأولى-الاثنين 18 أفريل2016). والأمر نفسه ذهب إليه الناطق باسم الحكومة خالد شوكات.
إنّ هذه القراءة متهافتة وغير متماسكة وتنمّ عن فهم قاصر لمفهوم الديمقراطية ومع سمات الأمن الجمهوري. فالدولة الديمقراطية لا تلتجئ إلى استعمال القوة إلاّ في حال التهديد الجدّي للأفراد ولأمنهم ولحرياتهم، والأمن الجمهوري المتشبّع بعقيدته الأمنية الحقّة هو أمن يحمي الحريات ولا ينتهكها، بل يتدخل لحمايتها وللتصدي لأيّ انتهاك لها، الأمن الجمهوري لا يخيف الناس ولا يعتدي ولا يمارس العنف اللفظي ولا يكشّر عن أنيابه ولا يهدّد بممارسة العنف، ولا يسرق الممتلكات الخاصة، الأمن الجمهوري يحترم الدستور ويصون أمن أعضاء السلطة التشريعية ولا يبادر بالاعتداء عليهم مثل ما حدث مع النائب عمار عمروسية.
إنّ ما حدث في قرقنة سيظل معرّة على الدولة المدنية الديمقراطية الوليدة، وهو خطر جدي يتهدّدها إن لم يقع التصدي له وتقييمه واتخاذ إجراءات ضدّ من تورّط فيه أمرا وتنفيذا. نحن نقول هذا ونرفض بشكل قطعي الاعتداءات المشبوهة على الأعوان ووسائلهم والتي نطالب بكشف حقيقتها وحقيقة من يقف وراءها. أمّا الاحتجاج المدني السلمي من أجل الحقوق فهو حقّ مطلق للأفراد والجماعات، حقّ غير قابل للتصرف وعلى الدولة وأجهزتها حمايته، وإن اعتدت عليه فإنها تعود إلى مربّع الدولة الاستبدادية والقمعية التي عمل شعبنا على تجاوزها وقنّن الدستور الجديد نقيضها، وهو دولة الحقوق والحريات. لذلك فإنّ ما حدث في المدة الأخيرة يُعدّ انتكاسة للمشروع الديمقراطي وضربا له وربطا مع الدولة العميقة التي مازالت سارية الوجود والفعل من خلال أساليب القهر ومن خلال رموزه ومن بينهم مدير الأمن الذي لم يتوان عن تهديد النائب الجيلاني الهمامي عن ترحيله للسجن، بنفس معجم نظام الطاغية بن علي ونفس أسلوب إدارته للشأن العام.
ازدواجيّة المواقف
أمّا دفاع حركة النهضة عن أداء الأجهزة الأمنية، فإنّ الأمر عادي طالما أنّ هذه الأجهزة مارست تحت إمرتها سلوكا فاشيا (أحداث الرش، 9 أفريل 2012، الاعتداءات على الاتحاد…)، وهذه الحركة معروفة بازدواجية المواقف، فإن طالها القمع فصوتها يعلو وإن طال غيرها فصوتها يخمد ويتواطأ. أمّا دفاع كمال الجندوبي عن القمع، وبقطع النظر عن واجب التحفظ ومبدأ التضامن الحكومي، فإنّ ماضي الرجل حريّ بأن يجعله ينتفض ويرفض أيّ انتهاك للحقوق كائنا ما كانت الظروف. أمّا دفاع بعض الأمنيّين بمن فيهم نقابيّين عن العصا، فنحن نقول لهم إنّ الأمن الجمهوري هو في الأصل عقيدة جديدة وسلوك جديد، سلوك يرفض التعليمات كائنا ما كان مصدرها إن كانت تستهدف الحريات والحقوق الأساسية، بل إنّ أخطر ما ثمة اليوم على الأمن الجمهوري هو عودة لفظ “تعليمات” للتداول بين الأمنيّين بمناسبة التحركات والاحتجاجات، ونحن بالمناسبة ندعو كلّ الأمنيين إلى رفض كلّ التعليمات الإدارية أو السياسية التي لا تحترم حقوق الإنسان. نحن ندعو الأمن إلى حماية الحريات، حماية المتظاهرين والمحتجّين والمعتصمين، بنفس القدر الذي ندعو فيه جماهير شعبنا بمن فيهم الأكثر غضبا إلى احترام حريات الآخرين وعدم استهداف المعدّات والمقرّات.
إنّ إنبات الحرية والديمقراطية في بلادنا يتطلّب ثقافة جديدة قوامها تقديس الحرية والكرامة وحماية الحقوق وعدم المسّ منها مهما كانت الظروف، وخلافا لذلك فإنه سيكون من مهمّات القوى الديمقراطية والتقدمية أشواطا جديدة من النضال من أجل الحريات التي خال العديد أنها أصبحت من ماضي الشعب التونسي بعد أن تخلّص من الطغيان. فلتتّحد كلّ الإرادات الحرّة ضدّ العودة إلى الوراء، ضدّ قوى الجذب إلى الخلف .
علي الجلولي