تستعدّ حركة النهضة لعقد مؤتمرها وسط صراع غير معلن بين من يتمسّكون بالمرجعية التاريخية للحركة التي تأسّست عليها وبين من يسعون إلى التّأقلم مع المرحلة الحالية والاستفادة قدر الإمكان من التواجد في الحكم والقيام بالمراجعات الضرورية التي من شأنها أن تتيح للحركة إمكانية التّطبيع مع مرحلة ما بعد الترويكا وكسب مزيد الأنصار والموالين.
التيّار البراغماتي الذي يقوده رئيس الحركة ومعه كلّ من ذاقوا مغانم الحكم ولا يريدون التفريط فيها، يكبر داخل الحركة بعد أن وجد الطريق مفتوحا جرّاء فشل نداء تونس في تشكيل حزب قويّ ومتماسك قادر على قيادة البلاد.
قادة الحركة واعون تمام الوعي بدقة المرحلة. وحزبهم في مفترق طرق. فإمّا أن يخرج قويّا وقادرا على العودة إلى قيادة البلاد وإمّا التّراجع والانقسام.
الغنوشي يتحرّك في الوقت المناسب
في هذا الإطار وأمام هذه التحديات تحرّك رئيس الحركة مطلقا شعار العفو الوطني العام بعد لقاء له مع السبسي في قصر قرطاج يوم 16 أفريل الجاري تُوّج بلقاء ثنائي بين وفدين من الحزبين رأى فيه عديد الملاحظين تطوّرا في مشهد الحكم يسعى إلى تهميش وربّما الاستغناء عن المكوّنين الآخرين للائتلاف الحاكم، ونعني الوطني الحر وآفاق تونس. العفو المطروح يهمّ التّجمّعيّين بدرجة أولى حيث يعتبر الغنوشي أنّ الثورة أفرزت إلى جانب ضحايا الاستبداد ضحايا جددا هم حكام الأمس الممنوعون من السّفر والمهدّدون بالسجن والمحرومون من أبسط الحقوق. وقد حان الوقت من وجهة نظره لتحقيق مصالحة وطنية. وهو ما يتقاطع مع ما طرحه السبسي من خلال مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية المقدّم منذ أشهر لمجلس نواب الشعب. لكنّ الغنوشي يريد مقايضة انخراط حركة النهضة في المصالحة الشاملة بإحداث صندوق لجبر ضحايا الاستبداد.
مبادرة رئيس حركة النهضة تجمع إذا بين مشروع السبسي الذي يخدم بالأساس أزلام النظام السابق وبين مطالب حركة النهضة في تفعيل قانون العدالة الانتقالية وخاصة في الجانب المتعلّق بجبر الضّرر لآلاف أتباع الحركة ضحايا النظام النوفمبري.
ضرب عصفورين بحجر واحد
مبادرة الغنوشي تأخذ في الحسبان مصالح الآلاف من أبناء الحركة الذين يطمح الشيخ إلى خدمتهم والمحافظة عليهم حتى تستفيد منهم الحركة سياسيا وتنظيميا ويقطع الطريق على إمكانية التحاقهم بأحزاب قريبة من النهضة (حزب التحرير- حراك المرزوقي…). ولكنها تسمح أيضا بالاستثمار في الفضاء التجمّعي الواسع الذي استفاد منه أكثر نداء تونس. فالعفو الوطني العام من شأنه أن يتيح فرصا واسعة لانتداب التجمّعيين الذين أثبتت التجربة أنّ أحزابهم المشكّلة بعد 14 جانفي لم تنجح في الاستقطاب ولم يكن لها تأثير كبير في صفوف الناخبين (حزب المبادرة – حزب جغام…) .
مبادرة الغنوشي في صورة مرورها من شأنها أيضا أن “تعيد الاعتبار” إلى حزب حركة النهضة وتبدّد المخاوف التي علقت به في السّابق باعتباره جزءً من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين وله تقاطعات مع المجموعات التكفيرية التي سبق أن استعان بها لضرب الخصوم السياسيين وفتح أمامها أبواب النشاط والتسلل إلى مؤسسات الدولة زمن حكم الترويكا… مثلما توفّر (المبادرة) لحزب حركة النهضة مزيد القبول والتأييد في أوساط القوى الاستعمارية الباحثة عن ترسيخ أقدامها وضمان مصالحها الاستراتيجية في تونس.
مبادرة تتعارض وأهداف الثّورة
التونسيات والتونسيون الذين قاموا بالثورة وقدّموا مئات الضحايا بحثا عن الشغل والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية غير معنيّين بهذه المبادرة التي لن توفّر لهم لا الشغل ولا الحرية ولا الكرامة. بل ستقوّي معسكر أعدائهم الطبقيّين وتمتّن وحدتهم. فيمرّوا بسرعة إلى الانقضاض على المكاسب المحقّقة والالتفاف على أهداف الثورة الذي بدا مع الترويكا ويتواصل بأكثر جرأة ووضوح مع الائتلاف الرباعي الحاكم من خلال الإذعان لإملاءات المؤسسات المالية العالمية النهّابة وعودة القبضة الأمنية ومساعي شيطنة المعارضة التقدمية والثورية والتمادي في التّستّر على ملفّات الفساد والاغتيالات.
الشعب التونسي ليس بحاجة إلى المصالحة مع أزلام النظام السابق وفاسديه الذين عذّبوا ونهبوا وباعوا البلاد. عودة هؤلاء من خلال مشروع المصالحة معناه القبول بما ضلع فيه النظام السابق من فساد واستغلال وتنكيل بالشعب التونسي وتهميش للمناطق الداخلية ودعم للحيتان الكبيرة من خلال القوانين المعدّة على القياس تحت عناوين تشجيع الاستثمار… وهو ما تحاول الأغلبيّة الحاكمة اليوم تمريره وفرضه على التونسيات والتونسيين باعتباره المقاربة الوحيدة الممكنة في نظرهم التي تلقى القبول من المؤسسات المالية العالمية النهّابة وتسمح بمزيد تدفّق القروض.
الشّعب التونسي بحاجة إلى الجديد قيادة وبرنامجا وخيارات. القديم سقط مع بن علي والطرابلسية ولم يعد يجدي نفعا. والمشروع الوطني الديمقراطي الاجتماعي هو البديل للخروج بالبلاد من أزمتها الشاملة.
إنّ تحقيق أهداف ثورة الحرية والكرامة لا يكون إلاّ عبر تفعيل قانون العدالة الانتقالية، رغم نقائصه. ولن يكون إلاّ وبالسرعة الضرورية بتطهير المؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة والإعلاميّة والقضائيّة والإداريّة من جيوب الفساد والاستبداد وسنّ قوانين جديدة تنسجم مع روح الدّستور وبعث الهيئات الدستورية المستقلة والإعداد اللوجستي لانتخابات بلدية ومحلية نزيهة وشفافة وديمقراطية والبحث عن معالجات ملموسة لمجمل الملفّات الحارقة عبر الحوار مع الأطراف المعنيّة السياسيّة والمهنيّة والمدنيّة، سواء ما تعلّق منها بالتنمية والتشغيل أو بمقاومة الإرهاب، هذه هي الخطوات الضرورية للدخول في طور جديد من بناء الدولة العصرية الحديثة.
لا مستقبل لتونس ولشعب تونس إلاّ خارج المنظومة القديمة وعلى أنقاضها
عاشت الثورة التونسية
المجد والخلود لشهداء الثورة
بقلم علي البعزاوي