إخلالات ونقائص وسلطة الإشراف غائبة، فهل هي خطوة نحو التّفويت فيها كلّيّا للخواص أو الشّركات العالميّة؟
تُعتبر الشركة التونسية للصناعات الصيدلية “سيفات” الكائنة بولاية بن عروس والمختصّة في صناعة الأدوية من أهمّ المرافق العمومية للدولة، نظرا إلى دورها في تعديل أسعار الأدوية خاصة للفئات الاجتماعية المتوسّطة أو الضعيفة. إلاّ أنّها وبعد التفويت في جزء منها للخوّاص بنسبة 32 بالمائة سنة 2001 أصحبت تعيش صعوبات نتيجة إخلالات وتجاوزات وشبهات فساد رُصدت في تقرير تفقّد معمّق أوّلي حول التصرّف في الشركة الصادر خلال شهر جويلية سنة 2013.
وبعد عديد الشكايات المرفوعة من قبل النقابة الأساسية للشركة والاتّحاد الجهوي للشغل ببن عروس، أذنت وزارة الصحة العمومية بتاريخ 28 نوفمبر 2012 بتولّى فريق من التفقدية الإدارية والمالية بالوزارة إجراء تفقدّ على التصرّف بالشركة التي تشغّل إلى حدود سنة 2012 قرابة 771 عونا قارا يتوزّعون إلى إطارات (428) وأعوان تسيير(228) وأعوان تنفيذ (115).
ورغم هذا التقرير الذي تحصّلت “صوت الشعب” على نسخة منه، إلاّ أنّ الإدارة العامة للشركة أو سلطة الإشراف لم تتّخذ الإجراءات اللاّزمة قصد التدّخل وإيجاد حلول جذرية لأغلب الملّفات المطروحة حتى تحافظ “سيفات” على صبغتها العمومية، ما اعتبره الطرف النقابي تواطؤ وصمت واضح لأغلب الإخلالات في خطوة نحو التفويت فيها للخواص أو الشركات العالمية العاملة بنفس المجال.
مهام “سيفات”
أحدثت الشركة التونسية للصناعات الصيدلية في شكل شركة خفيّة الاسم بتاريخ 10 أفريل 1989، وذلك في إطار هيكلة الصيدلية المركزية. وكانت تسمى “شركة الصناعات الصيدلية إفريقيا”. إلاّ أنّه تمّت مراجعة هذه التسمية أثناء الجلسة العامة العادية الثانية للشركة لتصبح التسمية الحالية. ووفقا لمقتضيات الفصل السادس من نظامها الأساسي يبلغ رأس مال الشركة تسعة ملايين دينار متكوّنة من أسهم موزّعة بين الصيدلية المركزية بنسبة 67.77 بالمائة ومساهمون خوّاص بنسبة 32.23 بالمائة وهي مُدرجة بالبورصة التونسية منذ سنة 2001. وعلى هذا الأساس فإنّ الشركة تعدّ منشأة عمومية اعتمادا على القانون عدد 9 لسنة 1989 المتعلّق بالمساهمات والمنشآت العمومية والنصوص المنقحّة والمتمّمة له.
من مهام الشركة تنمية البحوث الأساسية أو التطبيقية المتعلّقة بالأدوية وتطبيقاتها والدراسة والتصميم والصناعة والتحويل والمراقبة وبيع كلّ المواد الصيدلية المخصّصة للاستعمال في الطبّ البشري أو البيطري ومواد التضميد والمواد ذات الحمية والصحية المخصّصة للعلاج البدني إضافة إلى شراء وتصنيع وتحويل كلّ أنواع التغليف والتعليب والقوارير، بغاية تسهيل البيع والعرض التجاري للمواد المشار إليها في موضوع الشركة.
“سيفات” تقوم أيضا باستيراد مواد أوّلية لتحقيق موضوع الشركة ودراسة وبحث وتصميم كلّ المعدّات أو التجهيزات التي تخصّ صناعة المواد الأولية أو المستحضرات أو التغليف قصد بيعها والمساهمة بصفة مباشرة أو غير مباشرة في كلّ العمليات التجارية الصناعية التي لها ارتباط بأحد المواضيع المشار إليها أو التي من شأنها أن تيسّر في بعث شركات جديدة، كما يمكن لها الاستغلال في تونس أو في الخارج كلّ المصانع ومخازن أو وكالات تتعلّق بصناعة وبيع منتجاتها.
صعوبات في السّيولة
ذكر تقرير التفقدية الإدارية والمالية الصادر سنة 2013 والمتضمّن لقرابة 127 صفحة الذي تحصّلنا على نسخة منه، والذي أذنت وزارة الصحة العمومية بإنجازه، أنّ قيمة الإنتاج خلال سنة 2012 سجّل تطوّرا مقارنة بقيمة الإنتاج لسنة 2011. وقد تمكّنت الشركة من تحقيق نسبة تطوّر في رقم المعاملات قدّر بـ12.55 بالمائة سنة 2012. ورغم هذا التطوّر فإنّ الوضعية المالية سجّلت خلال السنوات الأخيرة لإعداد التقرير نتائج صافية سلبية، كما تشكو الشركة من صعوبات في السيولة حيث سجّلت قبل سنة 2013 وضعية سلبية للسيولة وتفاقمت من سنة إلى أخرى. ما دفع بالشركة سنة 2012 إلى الاقتراض لتمويل “المخزون” بقيمة 5 مليون دينار.
خطيّة ماليّة بـ600 مليون دينار؟
أمام ما تعيشه الشركة من مشاكل على مستويات عدّة، تقدّمت النقابة الأساسية لـ”سيفات” بتقديم ملفّ إلى وزير الصحّة العمومية بتاريخ 11 مارس 2011 وملفّ للمتفقّد لدى وزير الصحة بتاريخ 17 مارس 2011 وملفّ لدى كاتب الدولة للوزارة ثم ملفّ آخر قٌدّم إلى مستشار وزير الصحة في عهد عبد اللطيف المكّي بتاريخ 27 جانفي 2012 وملفّ لدى الوزير المكلّف بالإصلاح الإداري محمد عبو بتاريخ 16 فيفري 2012 وقضية عدلية عن طريق محامي بتاريخ 29 سبتمبر 2011 تحت رقم 26/72.
بدوره قام الاتحاد الجهوي للشغل ببن عروس بإرسال عدل تنفيذ بتاريخ 17 ديسمبر 2013 إلى الرئيس المدير العام آنذاك فيما يخصّ عدم الإيفاء بعقد طلبية لفائدة الصيدلية المركزية، ممّا أنجرّ عنه خطية مالية ضدّ”سيفات” تقدّر بـ600 مليون دينار، إضافة إلى تسويق محلّ كائن بمقر الشركة لفائدة مخابر “فايزر” بثمن كراء زهيد لا يراعي المساحة والقيمة المستوجبة. وقد اعتبر الاتحاد الجهوي للشغل هذه التصرّفات تندرج في إطار تبديد المال العام لمنشأة عمومية يؤدّي إلى المؤاخذة القانونية.
خطط وظيفيّة وانتدابات لا تحترم الشّروط
تضمّن التقرير المذكور، بسطة حول مختلف أوجه التصرّف بـ”سيفات” خَلُصَ إلى إبراز عدّة نقائص وإخلالات. وقد أوصى التقرير بدعوة الشركة إلى تقديم التبريرات الضرورية بخصوص ما أشرنا إليه والعمل على تداركها.
فعلى مستوى الانتدابات والخطط الوظيفية، ورغم أنّ أحكام النظام الأساسي الخاص بالأعوان يقتضي أن يتمّ الانتداب وفقا لأسلوب المناظرات الخارجية والمناظرات الداخلية، إلاّ أنّ التقرير خلص إلى أنّه وبعد مراجعة الانتدابات بين سنوات 2007 و2012 قامت المؤسّسة بفتح عديد المناظرات الخارجية والداخلية. وقد اتّضح أنّ بعضها شابها إخلالات. فخلال سنة 2001 وبمقتضى أمر صادر عن الرئيس المدير العام عدد 1340، تمّ فتح مناظرة داخلية بالملفّات للترقية إلى عدد من الرتب. ولقد تضمّن القرار شروط الترشح للمناظرة من بينها أن يتوفّر للمترشّح أقدمية بخمس سنوات على الأقلّ من تاريخ ترسيمه، لكن تبيّن وفق التقرير أنّ هناك 5 أعوان تمّ قبول ترشّحهم والتصريح بنجاحهم دون استيفاء شرط الأقدمية المذكور.
كما قامت الشركة بإسناد ترقيات خلال سنتي 2011 و2012 لعدد من الأعوان، اعتبرها التقرير أيضا مخالفة للتراتيب الواردة بالنظام الأساسي الخاص بأعوان الشركة، ممّا نتج عنه ارتفاع أعباء التأجير.
مصاريف العدّدات للمساكن الإدارية وسيّارات لأغراض شخصية؟
تمتلك الشركة التونسية للصناعات الصيدلية مسكنين إداريّين أسند أحدهما إلى رئيس دائرة الصيانة منذ سنة 1984 والثاني أسند إلى مديرة الإدارة الفنية منذ سنة 1999. وحسب التقرير المذكور وإلى حدود تاريخ البيانات والوثائق المتعلّقة بإحصاء مساكن الدولة والجمعيات العمومية بتاريخ فيفري 2006 فإنّه لم يقع بعد تركيز عدادّات فردية تتعلّق باستهلاك الكهرباء والغاز والماء والهاتف.
وحسب زيارة للمتفقد بتاريخ شهر مارس 2013 للمسكن الأوّل، فقد اتّضح أنّ عدّادات الكهرباء والماء تتولّى إدارة المؤسّسة خلاص معاليمها، وهو ما يعدّ مخالفا لمقتضيات الأمر المتعلّق بإسكان الموظّفين التابعين للدولة. أمّا المسكن الثاني، فقد صرّحت صاحبته لفريق التفقّد أنّها لم تشرع في خلاص معاليم الغاز والهاتف إلاّ بداية من سنة 2008، تاريخ تركيز عدّادا فردي في حين مازالت الشركة تتكفّل بخلاص معاليم الكهرباء والماء.
وقد وضّح التقرير بخصوص هذا الجانب أنّ الشركة مطالبة بتسوية هذه الوضعية في أقرب الآجال وبالعمل على استرجاع تكاليف استهلاك الماء والكهرباء التي تمّ تسديدها عن شاغلي المسكنين دون وجه حقّ.
أمّا بخصوص إسناد سيّارات المصلحة بصفة ثانوية لأغراض شخصية، فقد قام الرئيس المدير العام سنة 2012 باستعمال سيّارات مصلحة بصفة ثانوية لأغراض شخصية لعدد من الإطارات وتمتيع المنتفعين (العدد 6) بحصّة وقود شهرية بـ200 لترا من البنزين الرفيع الخالي من الرصاص، والحال أنّ التراتيب لا تسمح في هذه الوضعية إلاّ بما قدره 180 لترا. وقد قامت الشركة فيما بعد بتدارك الخطأ واعتبرته من قبيل السّهو؟
كما تحصّل السائق الشخصي للرئيس المدير العام ووفق مذكّرة صادرة عن إدارة الموارد البشرية بتاريخ 28 ديسمبر 2012، على سيارتين بصفة ثانوية لأغراض شخصية وذلك طيلة سنة 2013، الأولى من نوع “كونقو” والثانية من نوع “أودي أ 4”.
ورغم لفت النظر للمصلحة المعنية، إلاّ أنّ المذكور مازال يتمتّع بترخيص بخصوص استعمال سيارة المصلحة “كونقو” لأغراض شخصية ودون تعليل.
صفقات عموميّة مخالفة للقانون
تخضع الشراءات المنجزة من قبل الشركة إلى مقتضيات الأمر المتعلّق بالصفقات العمومية بالنسبة إلى التزوّد بالمواد والأشغال والدراسات. وخلال سنة 1998 تمّ استثناء التزوّد بالمواد الأوليّة ومواد التغليف الأساسية التي تستعمل في صنع المواد الصيدلية المعدّة للاستهلاك البشري من هذه الإجراءات، إلاّ أنّ مصالح “سيفات” عمدت إلى إنجاز شراءات وأشغال مخالفة. فحسب التقرير المذكور، قامت الشركة سنة 2002 باختيار إحدى الشركات من أجل اقتناء منظومة إعلامية، وقد تمّ إبرام عقد في الغرض سنة 2003. وتبيّن أنّه كان من المفروض انتهاء الإنجاز خلال شهر أكتوبر 2008، إلاّ أنّ ذلك تمّ خلال شهر ديسمبر 2009 ودون أيّ احتراز. وإضافة إلى ذلك فإنّ الشركة المزوّدة لم تنفّذ جميع التزاماتها إلى حدّ إعداد التقرير (سنة 2013). ولم تقم “سيفات” بأيّ تحفّظ على ذلك.
التقرير المذكور ذكر أيضا أنّ الشركة قامت بشراءات دون تفعيل مبدأ المنافسة، فمن خلال مراجعة الإجراءات المعتمدة في إنجاز النفقات ما بين 2007 و2012، تبيّن أنّه قد تمّ التعامل مع عدد من المزوّدين بصفة مباشرة. في حين كان من المفروض اتّباع إجراءات الاستشارة المكتوبة وإعداد جدول مقارنة أسعار في الغرض واختيار العرض الأقلّ ثمنا إذا كانت قيمة الشراءات لا تتجاوز 20 ألف دينار.
وبخصوص العروض المعلنة من قبل “سيفات”، فقد قامت بالاكتفاء بعرض وحيد بخصوص أحد الصفقات (صفقة أشغال الكهرباء الداخلية بوحدة مخابر بيار فايبر سنة 2007) وهو ما اعتبره التقرير إجراء مخالفا للمبادئ العامة لإبرام الصفقات العمومية.
إضافة إلى ذلك قامت الشركة بقبول عروض مخالفة لكراس الشروط وعدم الاستجابة إلى الشروط الفنية المطلوبة وعدم التقيّد بالعروض المالية المقدّمة من المزوّدين المشاركين أثناء عمليّة الفرز للعروض، مع اختيار العرض الأرفع ثمنا في التزوّد ببعض المواد وتأخير في إنجاز الطلبات ومخالفة النصوص المنظّمة للصفقات العمومية في إنجاز الصفقة عدد 4 لسنة 2002 المتعلّقة باقتناء وتركيز منظومة إعلامية “أم أف جي برو”.
خطوة نحو تفويت جزئي لفائدة شركة عالميّة؟
علمت “صوت الشعب” أنّ الجلسة العامة للشركة المنعقد مؤخّرا اقترح التفويت بنسبة 7.77 بالمائة من رأس المال الصيدلية المركزية والتي تمتلك 67.77 بالمائة لفائدة شركة عالمية مختصّة في صناعة الأدوية. واعتماد تسريح للأعوان حسب قانون المهن الخطرة الذي تخضع إليه الشركة، في حين أنّها تخضع إلى قانون الإحالة على التقاعد بعنوان 57 سنة وأقدمية 37 سنة أو قانون الإحالة على التقاعد المعمول به في القطاع العام. وبعد رفض الطرف النقابي لهذه المقترحات تمّ التراجع عن نقطة التسريح في حين تمّ تعليق مقترح التفويت.
المؤسّسة مكبّلة ومثقلة بالدّيون ونقص في الأدوية
من جانبه قال السيّد محمد لسعد المرزوقي الكاتب العام المساعد المكلّف بالدواوين والمنشآت العمومية بالاتّحاد الجهوي للشغل ببن عروس والذي يشغل خطّة الكاتب العام للنقابة الأساسية بـ”سيفات” لـ”صوت الشعب”، أنّ جملة الإخلالات كبّلت المؤسّسة وتسبّبت في إثقال كاهل المؤسّسة العمومية بالمديونية وفقدان دورها الريادي والاستراتيجي في مجال صناعة الأدوية. كما تساءل محدّثنا عن مدى تطبيق الشراكة بين القطاعين العام والخاص في المؤسّسات العمومية. فـ”سيفات” أمضت شراكة مع الشركة العالمية “فايزر” سنة 2000 وشراكة مع شركة “بيار فايبر” سنة 2009، مقابل إثقال كاهل الشركة منذ سنوات، إضافة إلى أنّ أغلبية الأدوية تعود إلى شركات خاصة؟
كما أضاف أنّ ما تعيشه “سيفات” أدّى إلى نقص في عدّة أدوية، معتبرا أنّ القطاع أصبح في أيدي دوائر أجنبية وليس على ملك الدولة، ممّا تسبّب في انتشار الفساد والشراكة غير المتكافئة التي أدّت إلى سيطرة مافيات ولوبيات وأسماء متنفذّة من داخل البلاد وخارجها، وفي المقابل ظلّت السّلط المعنيّة صامتة عن ذلك.
كما نبّه محدّثنا إلى أنّه وفي حال تواصل نفس السياسات في الشركة فقد يجد المواطن نفسه مخيّرا بين الأكل أو الحصول على العلاج نتيجة تردّي المقدرة الشرائية وليبرالية السوق حتّى في مجال الأدوية.
رئيس مدير عام بالنّيابة، فهل هي خطوة نحو الانفراج؟
علمت “صوت الشعب” أنّ مجلس إدارة الشركة اجتمع خلال الأسبوع الفارط، وأمام شغور منصب الرئيس المدير العام قام بتعيين المدير المالي للصيدلية المركزية في المنصب المذكور. فهل سيكون هذا التعيين خطوة نحو التعامل الجدي مع الملفّات المطروحة وإنقاذ المؤسّسة من شبح الخوصصة؟
تنويه:
حاولت “صوت الشعب” الاتّصال بإدارة الشركة التونسية للصناعات الصيدلية لأخذ ردّها حول التقرير لكنّ لم نتمكّن من ذلك. ويبقى حقّ الردّ مكفولا لجميع الأطراف.
فاتن حمدي