عقد الجبهة الشعبية ندوتها الوطنية الثالثة بعد طول انتظار. وصادف يومها الختامي الاحتفال بعيد العمال العالمي. وفي انعقاد الندوة بهذه المناسبة بالذات أمر له أكثر من مغزى ودلالة. فالجبهة الشعبية أعلنت ومنذ نشأتها انحيازها الصريح للكادحين والفقراء والمهمّشين ولسائر طبقات الشعب وفئاته. وقد جسّدت ذلك وأثبتته، على مدى ثلاث سنوات ونيف منذ انبعاثها، في برنامجها وخطابها وسلوكها.
تعقد الجبهة ندوتها ليس لتسوية خلافات داخلها ولا لحسم صراع من أجل المواقع صلبها، إذ أنها سبق وأن كسبت رهان الوحدة وتخطّت المنعرجات الصعبة التي وضعتها أمام اختبارات عاصفة كاد يُجمع كلّ الملاحظين على أنها آيلة للانفجار لكنها خرجت منها أكثر تماسكا وأصلب عودا خلاف ما حصل لأطراف أخرى كثيرة، تعقد الجبهة ندوتها لتؤكّد أنّ ما يشغلها هو ما أضحت عليه البلاد ومؤسساتها ومجالات الحياة فيها من تعطّل تام تقريبا يُنذر بمأزق قد يكون الخلاص منه صعبا ومستعصيا ما لم يجر على اختياراتها الاقتصادية وسياستها الاجتماعية والثقافية وما لم يدخل على مؤسسات الحكم فيها تغييرات جدية وحقيقية.
البلاد في خطر والآتي أكثر خطورة
لا يختلف اثنان اليوم أنّ البلاد تمرّ بأزمة متعدّدة الأوجه والأبعاد وأنّ الرباعي الحاكم عجز عن التخفيف من وطأة هذه الأزمة بقدر ما ازدادت في ظله اشتدادا وتعقيدا. فالاقتصاد في حالة انكماش متواصلة ومنذرة بالإفلاس والتعويل على الحلول الترقيعية القديمة لم تُجد نفعا والمضيّ في التّداين للخارج سيحملنا إلى تجاوز آخر خطوط الخطر (ما بين 64 و69 % من الناتج الداخلي الخام) ومؤشرات العجز تزداد في الميزانية العامة والميزان التجاري، فيما تتقهقر كلّ يوم أكثر مؤشرات الاستثمار الداخلي والخارجي والادخار والإنتاج والتصدير وتتراجع قيمة العملة ومدّخرات البلاد ومداخيل القطاعات الحيوية المنتجة منها والهشة على حد السواء.
وممّا زاد في تردي الأوضاع، استشراء الفساد الذي تحوّل إلى ظاهرة منفلتة من كلّ رقابة وسلطة وتسرّب إلى كلّ المؤسسات والقطاعات وأوجه الحياة العامة.
وفي ظلّ هذه الأزمة الاقتصادية وانتشار الفساد، باتت الدولة عاجزة عن الإيفاء بواجباتها تجاه المواطنين وغير قادرة على الاستجابة إلى انتظاراتهم في التشغيل وتوفير خدمات التربية والصحة والسكن والنقل وباقي الاحتياجات الحياتية، ولم يعد الخطاب الديماغوجي ينفع مع الإحساس الشعبي العام بالفقر والخصاصة والضيم وهو ما يفسّر تواصل حركات الاحتجاج في كل الجهات والقطاعات تقريبا.
مقابل ذلك، تقلّص هامش التصرف في الأزمة ويُخشى أن تمضي الأوضاع إلى حالات أخطر بما ينذر بالمأزق الذي لا أحد يتكهّن بما قد يُفضي إليه، خصوصا وأنّ آفة الإرهاب، التي استوطنت في أكثر من مكان في البلاد، تتصيّد الفرص للانقضاض على البلاد والدولة.
بلغة مختصرة، الحالة خطيرة وقد يكون المستقبل القريب يخبّئ لتونس أوضاعا أخطر وأعقد. هذا ما نبّهت إليه الجبهة الشعبية مرارا وتكرارا وما تنبّه إليه مرّة أخرى وهي تعقد ندوتها الثالثة التي ستخصّص مساحة من أعمالها لتعميق النظر في مظاهر الأزمة وأسبابها وسبل معالجتها.
إنقاذ البلاد مهمّة ملحّة
إنّ الجبهة الشعبية تدرك أنّ تشخيص الوضع على خطورته هذه – دون مبالغة وبعيدا عن تخويف التونسيين – ليس كافيا، بل هي تدرك أنّ مسؤوليتها – حتى وإن لم تكن في سدة الحكم – تملي عليها الاجتهاد من أجل بلورة الحلول الممكنة والواقعية واقتراح المخارج التي في مقدور البلاد أن تنفّذها إذا ما توفّرت الإرادة لذلك. وقد سبق لها أن أعلنت، من أكثر من منبر، أنّ جملة من الحلول ممكنة ومتوفّرة وقادرة على رسم طريق الخلاص من المأزق الخطير الذي يحدق بنا. وتشمل هذه المقترحات الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، منها ما هو مباشر ومنها ما هو متوسط المدى، إدراكا منها أنّ الخلاص لا يمكن أن يكون إلاّ تدريجيا.
إنّ أوضاع البلاد تتطلّب اتّخاذ جملة من الإجراءات المستعجلة والتي لا تقبل التأجيل أو التردّد أو التراخي في تنفيذها، وتصبّ كلّها في هدف أساسي هو تمكين الدولة من الاعتمادات الضرورية لبعث المشاريع في الجهات المهمّشة التي من شأنها أن تخلق الثروة وتنتشل الاقتصاد التونسي من حالة الانكماش وتوفّر مواطن الشغل للتقليص من البطالة وتمكين الشباب من دخل يضمن له الحد الأدنى من العيش الكريم. ولا بد من الاعتراف أنّ كل الحلول الفاشلة التي تمّ اتّباعها لم تُعط حلولا مجدية. بل عمّقت الأزمة باستمرار وزادت من وقعها السلبي على الجماهير الشعبية وعلى شريحة الشباب والمناطق الداخلية على وجه الخصوص. فلا اللّجوء إلى الاستثمار الخارجي كان مجديا، وهو لن يجدي في المستقبل بما أنّ أصحاب رأس المال الأجنبي لن يقامروا بوضع أموالهم في استثمارات داخل بلاد تعيش اضطرابات اجتماعية وظروفا أمنية سيئة، ولا التداين لدى البلدان الأجنبية والمؤسسات المالية العالمية نفع، بما أنّ قروض صندوق النقد الدولي عامة ما كانت مشروطة بـ”إصلاحات” تتعارض جوهريا مع مصلحة البلاد والاقتصاد ولا هدف لها سوى ضمان استرجاع تلك القروض وفوائدها العالية.
أمّا القروض الأخرى، فقلّما تمّ صرفها في مشاريع منتجة، وإنما كانت لتغطية المصاريف العادية للدولة وخاصة الأجور ولتسديد ديون قديمة أو لتعديل الموازين العامة للميزانية. ويزيد اليوم حجم المديونية في تونس عن نصف الناتج الداخلي الخام (53 % ومتوقع أن يبلغ حوالي 64 %) وتلتهم سنويا حوالي خمس الميزانية. وعلاوة على كلّ ذلك لم يعد من اليسير الحصول على قروض أخرى في الأسواق المالية العالمية بالنظر إلى الشكوك التي تحوم حول صلابة الاقتصاد التونسي بعد التخفيضات المتتالية في ترقيمه السيادي.
ومن ناحية أخرى، فإنّ رفض القيام بإصلاح جبائي حقيقي يشجّع أصحاب الثروات الكبيرة والشركات وأصحاب العديد من المهن الحرّة على التهرب من القيام بواجبهم الضريبي بشكل يجعل خزينة الدولة تقتصر تقريبا أو تكاد على الأداءات غير المباشرة الموظفة على الاستهلاك والضريبة المباشرة الموظفة على أجور الأجراء. وهو بالطبع ما لا يوفر للدولة ما يكفي من الاعتمادات لتمويل المشاريع الإنمائية والمصاريف الاجتماعية والبنية الأساسية وصرف الأجور. وتضطرّ الدولة في هذه الحالة إلى تخصيص الأساسي من مواردها لخلاص الأجور وتسديد جزء من الديون وبعض مصاريف التصرف والتسيير ولا يبقى لها ما توجهه لميزانية التنمية وتمويل المشاريع.
ومن جهة ثالثة، مادامت الدولة لم تتّخذ القرارات الحاسمة والإجراءات الفعّالة لمقاومة الفساد والتهريب والتجارة الموازية والاقتصاد غير المنظم فإنها بطبيعة الحال تفرّط في إمكانيات كبيرة لتحسين مداخيلها عبر إخضاع هذه الأنشطة للضريبة وتنشيط الدورة الاقتصادية وإدماج هذه الأنشطة في الاقتصاد المنظّم للرفع من مستوى التنمية الاقتصادية والبشرية. ومعلوم أنّ الفساد المستشري في البلاد يسبّب لها سنويا أكثر من 3 نقاط في معدّل التنمية وأنّ التهريب كان في صالح السماسرة والمضاربين وكذلك المجموعات الإرهابية التي استغلّته لاستجلاب الأسلحة وتسفير الشباب إلى مواقع التوتر في سوريا وليبيا والعراق.
إنّ اتخاذ إجراءات مستعجلة في هذه المجالات أمر أكثر من ضروري وملح وهي كلها، كما سبق أن قلنا، إجراءات من شأنها أن توفر للدولة المداخيل الكافية لمواجهة كلّ الاستحقاقات التنموية والاجتماعية والمالية. وفي هذا الإطار نرى أن لا مهرب من إعلان الحكومة قرار تعليق تسديد الديون لمدة زمنية لا تقل عن ثلاث سنوات توفر للحكومة مبلغا ماليا مهما، أي أكثر من 5000 مليون دينار ( أي ما مجموعه في ثلاث سنوات 15 ألف مليون دينار) وهو مبلغ كاف لبعث عدة مشاريع منتجة في الصناعة والفلاحة والخدمات يمكن أن توفّر حوالي 300 ألف موطن شغل على مدى ثلاث سنوات (اعتبارا أنّ معدل كلفة خلق موطن شغل هي حوالي 50 ألف دينار).
أما الإجراء الثاني، الذي لا مناص منه، فهو أخذ قرار بسن ضريبة ظرفية واستثنائية على أصحاب الثروات الكبيرة وهو ما سيوفر للدولة مداخيل إضافية تساعدها أكثر على مواجهة المصاريف التنموية ومصاريف التسيير والتصرف. ولا شك أنّ أصحاب الثروات الكبرى مطالبون، كغيرهم من عموم المواطنين، بالمساهمة في إنقاذ البلاد من أزمتها، كلّ من موقعه. وعليهم اليوم دين لا بدّ من الإيفاء به وهم الذين استفادوا من فترات الرخاء وفترات الهدوء والتنمية في العشريات الماضية، حيث استثمروا أموالهم ووفرت لهم الدولة كل الشروط المادية والقانونية والمالية للعمل والربح وتنمية ثرواتهم.
واليوم والبلاد في حاجة ماسة إلى الموارد، فأولى وأحرى أن تلتجئ إلى أبنائها والميسورين منهم لتفريج كربتها الاقتصادية والمالية، بدل أن تبقى تشحذ على أرصفة العواصم والبلدان الكبرى التي لا تفكّر إلاّ في مصلحتها.
وللتذكير، فإنّ رجال الأعمال كانوا بعد هروب بن علي، قد عبّروا عن استعدادهم لتمويل جملة من المشاريع، ربما وقتها نتيجة خشيتهم أن تتّخذ الثورة في شأنهم إجراءات متشددة، الأمر الذي جعلهم يسارعون إلى الإعلان عن استعدادهم التلقائي. ولكن وحالما استقرت الأوضاع نسبيا وتراءى لهم أنّ الأوضاع تتجه باتجاه الالتفاف على الثورة تبخّر استعدادهم ذاك بعد أن تبدّد خوفهم، فبدؤوا يتملصون من واجبهم تجاه الوطن والثورة والاقتصاد. ونلاحظ اليوم أنّ غالبيتهم باتوا يتصرفون بشيء من الصلف ويهرّبون أموالهم من البنوك ويستنكفون عن استثمارها ويخيّر الكثير منهم العمل في قطاع التهريب والأنشطة الاقتصادية الموازية.
إنّ اتخاذ هذا القرار من شأنه أن يوفّر للدولة عائدات بحوالي ألفي مليون دينار وهو مبلغ مهم ويساعد بلا شك على تحسين مخزونات الميزانية وتغطية جانب كبير من المصاريف التنموية والعادية. إلى جانب ذلك، يبقى أمام الدولة هامش كبير من المداخيل الأخرى لو اتجهت الحكومة إلى اتخاذ قرارات جدية وفاعلة لمحاربة الفساد والتهريب ولو أقدمت بشجاعة على معالجة ملف الأملاك المصادرة التي يمكن أن يوفر للخزينة ما لا يقل عن ثلاث آلاف مليون دينار. فقد كانت المؤسسات المصادرة من أحسن المؤسسات الاقتصادية التونسية في قطاعات منتجة ومربحة. وجرّاء استشراء الفساد، الذي تفاقم خلال حكم الترويكا وإلى حد الآن، تم تدمير الكثير من هذه المؤسسات وبات من اللازم إنقاذ ما تبقّى منها قبل فوات الأوان.
إنّ الحد من الفساد الإداري والمالي وإصلاح أوضاع المؤسسات المصادرة يمكن أن يفيد الاقتصاد الوطني بثلاث نقاط تنمية أي ما يوفّر قرابة 100 ألف موطن شغل جديد.
إنّ بلادنا تمرّ بفترة صعبة واستثنائية والأزمة التي تردّى فيها الاقتصاد وتفجّر فيها الاحتقان الاجتماعي يتطلبان إجراءات استثنائية وشجاعة استثنائية لتمكين الدولة من الإمكانيات اللازمة لبعث مشاريع منتجة في الفلاحة ومساعدة المؤسسات الصغرى والمتوسطة القادرة على خلق الثروة وبعث مشاريع كبرى في البنية الأساسية.
وفي كلّ هذا، لا يمكن التعويل على المستثمرين الخواص بل يتعين على الدولة أن تتولّى هي مهمة التنمية وبعث المشاريع، المنتجة منها وغير المنتجة، ريثما تعود الدورة الاقتصادية إلى سالف دورانها ويستأنف مسار التراكم الرأسمالي برعاية منها وتحت سلطتها. ولهذا السبب مطلوب من الدولة أن تضع مخططا اقتصاديا جديدا ومختلفا عمّا جرى العمل به حتى الآن، يقوم على جملة من المشاريع المنتجة في الصناعة والفلاحة والخدمات والأشغال الكبرى لتحسين البنية الأساسية وتنشيط الدورة الاقتصادية والبدء في خلق الثروة وبالطبع توفير مواطن الشغل والتقليص من البطالة. في مثل هذه المرحلة لا أحد يمكن أن يضطلع بهذا الدور سوى الدولة.
التّغيير من صنع القوى المحبّة للتّغيير
إنّ الجبهة الشعبية بالقدر الذي تساند نضالات الشباب والمعطلين وجماهير القرى والأرياف والجهات الداخلية من أجل حقوق لا يشكّ أحد في مشروعيّتها، وهي لا تخجل من ذلك مطلقا، بالقدر ذاته تجتهد وتعمل على بلورة مقترحات حلول. وقد سبق لها أن قدّمت مشروع ميزانية كاملا ومتكاملا لم يُؤخذ بعين الاعتبار بل اتُّهمت بالتشجيع على الفوضى وباحتراف الشعبوية والاحتجاج. ولئن افتُضحت هذه الدعاية المعادية والمظلّلة، فإنّ الجبهة تؤكّد مجدّدا أنها تمتلك فعلا الحلول والمقترحات القادرة على انتشال البلاد ممّا أوقعتها فيه السياسات الخرقاء. وهي تعتقد أنّ هذه الحلول تشكّل أرضية مشتركة مع الكثير من القوى السياسية والمدنية الأخرى المنشغلة بإنقاذ تونس وتعتبر أنّ الواجب بات يدعو كلّ هذه القوى لتوحيد صفوفها من أجل تغيير الواقع المؤلم ودرء المخاطر المحتملة. وممّا لا شكّ فيه أنّ التغيير لا يمكن أن يكون إلاّ من صنع القوى المحبّة له والحريصة على تحقيقه.