العمل في مسار تاريخ الإنسان كان ومازال القيمة الأساسيّة التي يحقّق بها الإنسان إنسانيته ويحفظ من خلالها كرامته ويجسد بشكل واضح حريته. ويمثل العمل القيمة الاقتصادية والاجتماعية التي يقاس من خلالها مدى تطور المجتمعات والدول ومدى قدرتها على خلق الثروة وتوفير أسباب الرفاه الاقتصادي والاجتماعي لشعوبها.
لكن العمل وانجازه في إطار الحراك الاجتماعي والاقتصادي ليست عمليات مجرّدة أو مقتصرة على كون العمال ليسوا إلا “قوة عمل” أو أداة للإنتاج فقط وفق المنظور الرأسمالي الكلاسيكي أو حتى النيوليبرالي الحديث. بل إنّ العمل عمليّة متعددة الأبعاد ومتداخلة العناصر، قوامها توفير كلّ ظروف العمل اللائق للإنسان.
العمل اللائق:
العمل اللائق من وجهة النظر الاقتصادية والاجتماعية هو العمل المُنتج الذي تُضمن فيه الحقوق الاجتماعية والتغطية الصحية، ويكون فيه الدخل أوالأجر مُضاه للعمل وقادر على حفظ كرامة العامل ويحقق رفاهه الاجتماعي والاقتصادي وعاكس لطبيعة الثروة المُنتجة وقيمتها. بذلك يكون العمل مقياسا للنهوض الاجتماعي والتطور الاقتصادي والرفاه الإنساني.
لكننا في تونس وخلال الخمس سنوات الأخيرة، و في ظل المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد، فإنّ ماكينة الإعلام المأجور والحكومات المتعاقبة و لتبرير فشلها وعجزها عن تحقيق ولو جزء من استحقاقات المسار الثوري، نجدها تختبئ وراء أوهام وشعارات من قبيل تراجع العمل بالبلاد وأن الشعب التونسي لا يعمل والعمال لا ينتجون و يطالبون فقط بالزيادات في الأجور وغيرها من السموم التي تهدف إلى تحميل العمّال والطبقات الشعبية فاتورة الفشل وغياب البرنامج والرؤية الثورية لحلّ إشكالات الخراب الذي خلفته تجاربهم المدمرة.
1.2 مليون عامل لا يتمتعون بالتغطية الاجتماعية:
فعمال تونس بالفكر والساعد يتجاوزون 3.4 مليون عامل، أكثر من 1.2 مليون عامل لا يتمتعون بالتغطية الاجتماعية والصحية، ويتقاضون أجور لا تتجاوز في الغالب ثلثي الأجر الأدنى الصناعي المضمون، أي حوالي 233 دينار.
أمّا عمّال وعاملات القطاع الفلاحي وخاصة العاملات اللاتي يمثلن 75 بالمائة من العملة الفلاحيين، فظروف عملهم أشبه بظروف عمل الأقنان في النظام الإقطاعي. حيث تعمل النساء في الضيعات الفلاحية 10 ساعات يوميا مقابل 7 دنانير، دون احتساب الوقت التي تستغرقه رحالات الموت في شاحنات لا تتوفر على أبسط ظروف النقل التي تحترم إنسانية الإنسان. فقد تعددت الحوادث في هذا المجال وخاصة في ولايات القيروان و سليانة و سيدي بوزيد.
لكنّ النساء اللواتي يتعرضن إلى حوادث لا يتمتعن بأي حقّ بل يقع تعويضهن مباشرة بمن هنّ في انتظار عمل من جحافل المعطلات. فالمعطلون أصبحوا يمثلون جيش احتياط لرأس المال.
كذلك لا يجب أن ننسى واقع العاملات والعمّال في عدد كبير من المؤسسات الخاصة الذين تمارس عليهم أبشع أنواع الاستغلال من خلال الأجور الزهيدة والتصاريح المغشوشة لأنظمة التقاعد والتغطية الصحية، إضافة إلى ظروف عمل سيئة لا تحترم الكرامة الإنسانية.
يتمّ ذلك في إطار صمت البيروقراطية النقابية التي تغطّي تحالفها الموضوعي والعلني مع رأس المال واليمين الحاكم، من خلال التركيز على الزيادة في الأجور، التي تُعتبر في في ظلّ ضعف الدولة وتراجعها عن دورها الرقابي خاصة في مجال الأسعار و حماية القدرة الشرائية دفعا نحو التضخم، الذي يمتص أي زيادة في الأجور.
تنضاف إلى ذلك المشاكل الهيكلية التي يعاني منها سوق الشغل، انطلاقا من مجلة الشغل التي تشرّع سياسات التعاقد الهش والسمسرة باليد العاملة، دون طرح جدي للمشاكل الحقيقية للاقتصاد من منوال تنوي وعدالة توزيع الثروة و غيرها من الاستحقاقات التي رفعها الشعب وخاصة الشباب إبان انطلاق المسار الثوري.
وفي المقابل، يُكثر التحالف اليميني الحاكم من الدعوات إلى العمل، ويتهم العمّال بالتقاعس والاقتصار على المطالبة بالزيادات، محاولا التعتيم عن فشله وفقدانه لأبسط البرامج القادرة على تجاوز الإشكالات التي تعاني منها البلاد بعد أكثر من خمس سنوات على حكم هذه الأحزاب الهجينة التي لا ترتبط بهموم الشعب إلا بالشعارات، مدعومة في هذه الحملات بإعلامها المأجور والفاسد.
لكن العمل من أجل ماذا، و لمن و في أي ظروف نطالب العمال بالفكر و الساعد أن يعملوا؟
العمل ليس مجرد فضاء لبيع قوى العمل:
فالعمل ليس مجرد فضاء لبيع قوى العمل من قبل العمال لأرباب العمل ليحولوا فائض قيمة العمل بكل أبعاده وأشكاله المادية والمعنوية والفكرية لحسابهم الخاص مقابل أجور زهيدة وغياب تامّ للتغطية الصحيّة والاجتماعية.
كيف نطالب الأعوان والإطارات في الوظيفة العمومية بالعمل في ظلّ منظومة بيروقراطية فاسدة، لا قيمة فيها للعمل و للإنتاج، تقوم على الولاءات والمحسوبية والرشوة؟
كيف نطالب بالعمل والمنظومة كلّها قائمة على ضرب القيمة الاقتصادية والاجتماعية للعمل؟
فالعمل لم يعد قادرا على ضمان كرامة العامل، بل إن السمسرة والتلاعب بالمال العام والمحسوبية والانتماءات الحزبية هي التي أصبحت محددة للارتقاء المهني والوصول إلى أعلى مراتب الهرم الإداري.
فهل يمكن إقناع العمال والموظفين، في هذا الإطار و في هذا الفضاء الفاسد، بقيمة العمل و بذل الجهد؟
العمّال هم من يدفعون الضريبة:
في القطاع الخاص، العمّال هم من يدفعون ضريبة الأوضاع الاقتصادية للمؤسسات. فيحرمون من التغطية الاجتماعية والصحية. ويعانون من تراجع الانتدابات التي حلّ محلها التشغيل الهش وغير المقنن، لأنّ تفشي البطالة سمح لأرباب العمل بفرض شروطهم على المعطلين الذين يجبرون على العمل في ظروف غير لائقة وبأجور لا ترتقي حتى إلى مستوى الأجر الأدنى الصناعي المضمون.
فهل يمكن في ظلّ هذه الأوضاع الشغليّة المتردية الحثّ عن العمل ومطالبة العمال بمزيد البذل والعطاء، لتستفيد من ثروتهم وجهدهم أطراف انتهازية وسماسرة ومقاولي السياسة الذين ليس لهم أي علاقة بالعمل و الإنتاج و خلق الثروة؟
وهل يمكن، في ظلّ استشراء الفساد وسيطرة مافيا المال والسياسة على مفاصل الإدارة والمؤسسات العمومية والخاصة ، الدعوة إلى لعمل وبذل الجهد؟
الادّعاء أنّ “العمّال في تونس لا يعملون” مجانب للحقيقة. فهم الوحيدون الذين ضمنوا تواصل الدولة ووفروا الثروة. لكن يمكننا أن ننتج وأن نبدع أكثر ونحسّن في إنتاجيتنا، و بالتالي نرفع من قدراتنا التنافسية في الأسواق العالمية لو يتمّ إعطاء العمل قيمته الحقيقيّة في إنتاج الثروة وتحقيق النمو الاقتصادي والارتقاء الاجتماعي لمنتجي الثروة الحقيقيين، عبر مقاومة حقيقية للإرهاب والتهريب وضرب الولاءات الحزبية ومقاومة الفساد والبيروقراطية الإدارية وخلق مناخ شغلي تتكافأ فيه فرص الانتداب والترقية المهنية والتكوين ودعم القدرات لمن يستحقها فعليّا.
أما أن ندعو إلى العمل ونحن نحافظ على نفس الإطار الفاسد، فذلك هراء وعويل في الصحراء.
بقلم حسين الرحيلي