تنفّس السّوريّون الصّعداء بإحلال التّهدئة في مختلف جبهات القتال باستثناء مناطق سيطرة القاعدة وتنظيم الدولة الإرهابي حسب الاتفاق الأمريكي الروسي الراعي لهذه التهدئة. وقد استغل الجيش السوري هذه التهدئة لاستعادة مدينتي تدمر والقريتين التابعتين لمحافظة حمص، وبدأ في الاستعداد للتّوجّه نحو دير الزور والرقة آخر أكبر معقلين لتنظيم الدولة الإرهابي في سوريا.
استعادة محافظة حمص بالكامل أعطت انطباعا لدى الرأي العام الداخلي والخارجي بأنّ الجيش السوري هو الأقدر على قيادة الحرب البرية لتحرير سوريا بالكامل وأسقطت أهمية تشكيل جيش إقليمي كبديل عن الجيش المحلي، لكن القوى الإقليمية والغربية بما فيها الأمريكية لم تستسغ الحقائق الجديدة وانخرطت في التخطيط لتفجير الأوضاع من جديد بالتشجيع على خرق الهدنة لإلهاء الجيش السوري عن مواصلة مشوار تحرير الأراضي من قبضة القوى الإرهابية (النصرة وداعش) من جهة، وفرض موازين قوى جديدة على الأرض لاستثمارها في المفاوضات، من جهة أخرى.
القوى الإقليمية تناور
لقد سمح النظام التركي لتنظيم الدولة الإرهابي بإلحاق الهزيمة بالمجموعات المسلحة والتّمدّد على الحدود التركية شمال مدينة حلب بين جرابلس واعزاز رغم أنّ لديه من الأسلحة والقوات ما يمكنه من منع هذا التمدّد، وذلك لتشكيل نوع من الضغط على القوات السورية من جهة وقطع الطريق أمام تمدّد الأكراد داخل هذه المنطقة وحبسهم على تخوم نهر الفرات من جهة أخرى. كما ساعد مجموعات النصرة وأحرار الشام وغيرها من الفصائل بالعتاد والمسلّحين لشنّ هجمات على أرياف اللاّذقية وأحياء مدينة حلب ومستشفياتها وإسقاط مئات القتلى وآلاف الجرحى.
ومن جهتها، ضغطت السعودية عبر معارضتها التي قاطعت محادثات جنيف وجدّدت المطالبة بتنحّي الرئيس بشار الأسد وإلغاء أيّ حضور له في مرحلة الحكم الانتقالي. كما أوعزت إلى جيش الإسلام بمواصلة خرق الهدنة في الغوطة الشرقية والعمل على تصفية وإلغاء باقي المجموعات المسلحة واستعمال ذلك كورقة ضغط في المفاوضات القادمة.
حسابات واشنطن تتقاطع مع القوى الاقليميّة
رغم الاتفاق الحاصل بين موسكو وواشنطن في موضوع التهدئة، فإنّ هذه الأخيرة لم تمارس الضغط الكافي لمنع خرق الهدنة بل هددت بالمرور إلى الخطة “ب” أي مدّ المجموعات المسلحة بالعتاد والسلاح في حال شن الجيش السوري هجوما لتحرير مدينة حلب من المجموعات الإرهابية التي تسيطر منذ سنوات على بعض أحيائها وتستعمل ذلك التواجد لإطلاق الصواريخ والقذائف على باقي الأحياء التي تقع تحت سيطرة الدولة السورية. وقد مكّنت واشنطن تركيا من صواريخ جديدة منقولة وعالية الدقة قادرة على الضرب على بعد 90 كلم لاستعمالها ضد الجيش السوري كلما دعت الضرورة وليس ضد “الدواعش” مثلما يسوّق لذلك الإعلام الأردوغاني.
فالإدارة الامريكية، التي انخرطت في الحل السياسي باتفاق مع الروس، تعمل على تلجيم النظام السوري ومنعه من تحقيق أهدافه في السيطرة بقوة السلاح على كامل الجغرافيا السورية حتى يجبر على تقديم التنازلات الضرورية للمعارضة خلال مفاوضات الحل النهائي.
الشّعب السّوري يدفع الثّمن
الشعب السوري الذي يتعرّض إلى التقتيل والتهجير والتجويع ويعيش الحصار والترهيب من قبل الجماعات التكفيرية هو ضحية مؤامرة إقليمية ودولية، وهو يدفع فاتورة الصراع المحموم بين هذه القوى على اختلاف حساباتها. فروسيا تعمل على تثبيت نظام الأسد باعتباره راعي مصالحها الاستراتيجية وقاعدتها في المنطقة، وواشنطن تخطّط من خلال الحرب على سوريا لتفتيت الوطن العربي إلى كيانات طائفية وفرض مشروع “الشرق الأوسط الجديد” وتمكين الكيان الصهيوني من السيطرة والعيش بسلام رغم أنه جسم غريب عن المنطقة.
أمّا القوى الإقليمية وفي مقدمتها السعودية وتركيا فترغب في تصفية الحسابات الطائفية مع إيران الشيعية بوقف تمدّدها وضرب أتباعها في المنطقة ومن ضمنها نظام العلويّين في سوريا وتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية استراتيجية من شأنها أن تبوّئها مكانة الطرف الذي يمكن التعويل عليه كحارس لمصالح القوى الاستعمارية في منطقة الشرق الأوسط. هذا إلى جانب قطع الطريق أمام الثورات الشعبية التي تعمل على الإطاحة بنظم الاستبداد والفساد والعمالة.
الشعب السوري أجبر على تأجيل حسم معركة التحرر من الاستبداد والفساد بفعل تدخل القوى الخارجية، سواء مباشرة أو عن طريق الجماعات الإرهابية المسلحة، وهو ينتظر انتهاء الحرب وعودة السلام والاستقرار والأمن بعد القضاء على المجاميع التكفيرية حتى ينطلق من جديد من أجل فرض حقه في الحرية السياسية. فالشعب السوري الذي اكتوى بنار الإرهاب والاستبداد لن يتراجع، مهما كانت المخرجات، عن تحقيق حلمه بوطن أفضل، وطن تتحقق فيه الحرية والتعايش السلمي بين مختلف المكونات الثقافية والسيادة الوطنية والمساواة والعدالة الاجتماعية.