الأستاذ محمود مطير
صندوق النّقد الدّولي مؤسّسة ماليّة دوليّة تمّ بعثها سنة 1944 في مؤتمر “بريتون وودس” وذلك قصد ضمان استقرار النّظام النقدي العالمي بعد الحرب العالميّة الثانية. وكان الهدف الأساسي حماية اقتصاديّات العالم الكبرى من السّقوط في وضعيّة الثلاثينات من القرن الماضي. حيث كانت سياسات التخفيض من العملة وقرارات السياسات الاقتصادية الأحاديّة لكلّ دولة تؤجّج العلاقات الدوليّة.
النّظام النقدي الجديد
يقوم النّظام النقدي الجديد المقترح في “بريتون وودس” على ثلاثة مبادئ. يتمثّل أوّلها في تقييم العملة الوطنيّة بالنسبة إلى قيمة الذهب أو بالنسبة إلى قيمة الدولار الأمريكي القابل للتحويل بدوره إلى الذهب.
وثانيها يُوجب أن لا تتجاوز قيمة العملة في السوق صعودا أو نزولا نسبة 1 في المائة من قيمتها الأصلية.
وثالثها يُحمّل كلّ دولة مسؤوليّة الدفاع عن قيمة التبادل لعملتها وذلك بتوازن ميزان الدفوعات.
ومن هذا المنطلق، يكون دور هذا النّظام النقدي المحافظة على محيط يشجّع تطوّر التجارة الدوليّة ويمكّن من إسداء قروض إلى بعض البلدان التي تمرّ بصعوبات في ظلّ وضع إعادة البناء بعد الحرب.
وكان صندوق النقد الدولي مكمّلا للمؤسّسات الاقتصادية الكبرى التي تمّ بعثها في تلك الفترة وخصوصا “البنك الدولي لإعادة البناء والتنمية” والذي يُعرف بالبنك الدولي.
وكان كاينز، ممثل المملكة المتحدة في محادثات “بريتون وودس”، اقترح أن يكون صندوق النقد الدولي بمثابة بنك مركزي للعالم يُصدر عملة خاصة دولية، غير أنّ الولايات المتحدة الأمريكية رفضت ذلك بحجّة فقدان سيادتها. لكنّ ذلك كان أساسا للحفاظ على وضع الهيمنة للدولار الأمريكي آنذاك.
منذ أواخر الخمسينات من القرن الماضي، بدأت تظهر صعوبات تتعلّق بتطبيق اتفاقيّة “بريتون وودس” خاصّة فيما يتعلّق بتحويل العملات إلى ذهب أو دولار. وهو ما جعل الصندوق يلجأ الى بعث ما يشبه العملة (حقوق السحب الخاصة، 1969).
ويمكن القول إنّ نظام “بريتون وودس” قد انتهى سنة 1971 عندما قرّرت الولايات المتحدة أنّ الدولار لم يعد قابلا للتحويل بالذهب. لذا فإنّ دور صندوق النقد الدولي، المتمثل في ضمان استقرار نسبة التبادل باحترام نسبة الواحد في المائة، قد انتهى. وقد أصبحت نسبة التبادل متغيّرة منذ 1973. ولم يعد نظام النقد العالمي منظّما وأمضت الدول الأعضاء بالصندوق سنة 1976 “اتفاقية الجماييك” التي تقرّ نظام تعويم نسبة العملة.
تنفيذ النّظام النّقدي
كانت مهمّة صندوق النقد الدولي عند بعثه تنفيذ النّظام النقدي الذي حدّدته اتفاقيّة “بريتون وودس”.
ويهدف الصندوق، حسب قانونه الأساسي، إلى تنمية التعاون النقدي الدولي وضمان الاستقرار المالي وتسهيل المعاملات أو المبادلات الدولية والمساهمة في تنمية التشغيل والاستقرار الاقتصادي والتخفيض من الفقر. لكنّ المهمة الأساسيّة للصندوق تتمثّل في المحافظة على استقرار النّظام النقدي العالمي وحلّ الأزمات النقديّة والماليّة عامّة. لذا يقدّم الصندوق قروضا للبلدان التي تمرّ بصعوبات ماليّة متعلّقة أساسا باستقرار نظامها النقدي (البنوك والسوق الماليّة…) أو المتعلقة بالمبادلات التجارية الدوليّة.
وقد كان على البلدان الأعضاء بالصندوق، التي لا تستطيع المحافظة على قيمة عملتها دون تجاوز نسبة الواحد في المائة صعودا أو هبوطا، أن تلتجئ إلى التخفيض أو إعادة التقييم حسب الحالة. وإذا كانت نسبة التعديلات النقدية تتجاوز الـ10 في المائة فيجب الحصول على الموافقة المسبقة من الصندوق.
ولكن من أجل تلافي هذه الوضعية، يقوم الصندوق بدور الوسيط المالي بين الدول الأعضاء. لذا أوجب على كلّ دولة أن تدفع مبلغا يسمّى “مساهمة” حسب القدرة الاقتصادية لكلّ بلد، يُحدّد على أساس الناتج المحلّي للبلد وأهميّة تجارته الخارجية. ويتمّ دفع 25 في المائة من المساهمة ذهبا والباقي من العملة الوطنية. وفي حالة عدم توازن ميزان الدفوعات لبلد معيّن، ممّا قد يؤدّي إلى تهديد التوازن النقدي في سوق المبادلات، يمكن لهذا البلد الحصول أوتوماتيكيا على 25 في المائة من مساهمته (حقّ السحب) لدعم عملته الوطنيّة.
وإذا رأى الصندوق أنّ بلدا ما يمرّ بصعوبات ماليّة ومن الضروري مساعدته، يمكن للصندوق إقراض هذا البلد في حدود 125 في المائة من مساهمته، ومن شأن عملية الإقراض هذه تمكين البنك المركزي المحلي من الدفاع عن العملة الوطنية في سوق المبادلات.
تركيبة الصّندوق
يضمّ صندوق النقد الدولي 188 بلدا ويقوم بتسييره مجلس إدارة يتكون من رئيس و24 عضوا من بينهم 8 أعضاء قارّين، وهم ممثلو الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا واليابان وجمهورية الصين الشعبيّة وروسيا والعربية السعودية.
ويتمّ انتخاب باقي الأعضاء مع الأخذ بعين الاعتبار مساهمة كلّ دولة في رأس مال الصندوق، لذا فإنّ الولايات المتحدة كانت تمتلك 25 في المائة من الأصوات (قبل مراجعة ذلك في السنوات الأخيرة)، وهي الدولة الوحيدة التي تمتلك حقّ “الفيتو”.
ويُعتبر تمثيل بعض البلدان مثل الصين وروسيا ضعيفا في مجلس إدارة الصندوق وهو ما دفع عديد البلدان الأعضاء إلى المطالبة بتمثيل أحسن.
وتُتّخذ القرارات بالإجماع، وقد يكون ذلك نتيجة لنسبة الأغلبية المطلوب توفّرها، وهي 85 في المائة وهي نسبة تتحكّم فيها الولايات المتحدة وبلدان أوروبا الغربية.
تساوي موارد صندوق النقد الدولي المتأتية من المساهمات 300 مليار دولار أمريكي، لكن يمكن للصندوق أن يقترض من القوى الاقتصادية الكبرى.
الإقراض المشروط
منذ سنة 1976، أصبح دور الصندوق يقتصر أساسا على مساعدة الدول التي تمرّ بصعوبات مالية وذلك عن طريق الإقراض.
ويقوم الصندوق أيضا بدور المستشار الاقتصادي والمالي للدول الأعضاء فيما يتعلّق بسياساتها الاقتصاديّة والماليّة، كما يقدّم مساعدة فنيّة وعروض تكوين للدول الأعضاء التي تحتاج إلى ذلك. لكنّ موافقة الصندوق على الإقراض تخضع إلى شروط، إذ يجب على البلد الذي يطلب قرضا من الصندوق أن يلتزم بسلوك سياسة تعديليّة لمعالجة أسباب انخفاض قيمة العملة. وعادة ما يُشترط الصندوق على البلد المستفيد من القرض – وهو في وضع مالي صعب- أن يستجيب إلى بعض الطلبات التي يسمّيها إصلاحات اقتصاديّة وماليّة وذلك تحت عنوان تطوير النمو الاقتصادي وإعادة الثقة للاقتصاد.
عندما يتدخّل صندوق النقد الدولي في بلد ما يتفاوض مع البلد المعني حول برنامج إصلاح هيكلي ويتمثّل البرنامج عادة فيما يسمّيه الصندوق إرساء قواعد تحسين ظروف الإنتاج والعرض وذلك بتطوير آليات السوق عبر فتح البلاد للرأس مال الأجنبي والتجارة الدولية، تحرير سوق الشغل والتقليص من دور الدولة أو تدخّلها في المجال الاقتصادي، وبالتالي تطوير خصخصة المؤسسات العموميّة.
وقد جمع رجل الاقتصاد الإنكليزي “ج.ويليامسون” مجمل مقترحات الصندوق وأفكار تحت عبارة “إجماع واشنطن” على أساس اتّفاق كلّ المؤسسات الماليّة والاقتصادية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة الدولية للتجارة)، التي توجد مقرات أغلبها بواشنطن، على المقترحات والأفكار آنفة الذكر.
وعادة ما تكون البرامج “المقترحة” من صندوق النقد الدولي مصحوبة بسياسة تقشّف (التخفيض في مصاريف الدولة الاجتماعية) مع عدم التخفيض في الجباية وإمكانيّة الزيادة فيها للمحافظة على توازن الميزانية. وقد أصبحت تدخلات صندوق النقد الدولي عديدة في البلدان النامية في الثمانينات من القرن الماضي وهي الفترة التي شهدت تطوّر أزمة التداين لهذه البلدان وخاصة في سنة 1982 مع توقّف المكسيك عن الدفع وخلاص ديونه.
ولكن الصندوق تدخّل في بلدان متقدمة مثل تدخّله أواخر التسعينات من القرن الماضي في كوريا الجنوبية. وقد تطوّر هذا التدخل في بلدان أخرى مماثلة في السنوات الألفين، مثل التدخل في اليونان سنتي 2010 و2011 ثم البرتغال وايرلندا ورومانيا وأوكرانيا في 2012 . كان هدف صندوق النقد الدولي من التدخل في البلدان النامية، حثّها على فتح تجارتها للخارج وخاصة في الثمانينات من القرن الماضي (سياسة الإصلاح الهيكلي). لكنّه توجّه في التسعينات، بعد تفكّك منظومة البلدان الاشتراكيّة، إلى إدماج الأنظمة النقديّة لهذه البلدان ضمن المنظومة الدوليّة.
هيمنة الولايات المتحدة
إنّ اشتراط الصندوق على المقترضين تطبيق سياسة اقتصاديّة وماليّة محدّدة وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية عليه (حق الفيتو ودور الدولار) جعل اليسار في العالم، ومنذ بعث الصندوق يتّخذ مواقف معادية له.
إنّ هيمنة الولايات المتحدة على الصندوق ليست مسألة نظرية ذلك أنّ هذا البلد، الذي اعتبر الأقوى عسكريا واقتصاديا في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يتحكّم في الصّندوق سواء بما أتاحه له قانونه الأساسي (25 في المائة من الأصوات وحق الفيتو) أو بالدّعم الذي يلقاه من حلفائه أي الدول الرأسمالية (أوروبا الغربية واليابان) التي تمثّل أكبر اقتصاديّات العالم وتتحكّم في مصيره ولها دور مهمّ ضمن تركيبة الصندوق.
ومنذ البداية، تمّ تقاسم رئاسة الصندوق والبنك الدولي بين هذه الدول. وقد جرت العادة أن يكون رئيس الصندوق أوروبيّا، في حين يكون رئيس البنك الدولي أمريكيا. وهو ما جعل قرارات الصندوق لا تخرج عن هذا النّطاق الضيّق للدول الرأسمالية الغربية. وقد أدّى الإطار القانوني من جهة، والتحكم في دواليب المؤسّسة عبر المسيّرين المدعومين من الدول الماسكة بزمام الأمور من جهة أخرى، إلى توجيه الصندوق في اتجاه اقتصاد ليبرالي داعم للدول والمؤسسات البنكية العالمية التي تسيطر على الدواليب الاقتصاديّة في العالم. وكان الفكر السائد بالتالي هو الفكر الليبرالي الأحادي.
وقد جعل هذا الوضع الدول التي تتبنّى فكرا مغايرا وخاصة الفكر الاشتراكي والأحزاب اليسارية تقف موقف الناقد إن لم نقل المعادي لصندوق النقد الدولي، لأنّ السياسات التي يطرحها الصندوق في شكل “نصائح وتوجيهات” كلّها معادية للفكر وللاقتصاد الاشتراكي وللعمّال والطبقات الشعبيّة وتدعم النظام الليبرالي وتعبّد الطريق لهيمنة المؤسّسات المالية الدوليّة والرأسمال الاستعماري (الامبريالي) تحت عناوين مختلفة تخفي الحقيقة، مثل حريّة السوق وتنمية المبادلات.
الصّندوق يكرّس سياسة استعماريّة
وقد اعتبر الكثير من رجال الاقتصاد والسياسة في العالم أنّ صندوق النقد الدولي يمثّل أداة في يد الاستعمار الجديد يساعده على نهب ثروات البلدان النامية تحت عنوان النمو والتّفتّح على الخارج وحرّية السوق، كما اعتبر هؤلاء أنّ الصندوق، بفرضه سياسات محدّدة على البلدان المقترضة، يفقد هذه البلدان سيادتها المالية والاقتصادية.
أثناء الأزمة المالية الآسيوية أواخر التسعينات من القرن الماضي، اقترح الصندوق سياسة تقشّف مالي وصرامة الميزانية وذلك رغم الهزّات وعدم الاستقرار الاجتماعي في البلدان المعنيّة. وقد كانت مواقف هذه البلدان المعنيّة بالإصلاحات المقترحة من الصندوق مختلفة. غير أنّ البلدان، التي رفضت تطبيق “نصائح” الصندوق وقامت بسياسة توسع اقتصادي (مثل الصين) أو سياسة مراقبة حركة رؤوس الأموال (مثل ماليزيا)، نجحت في التغلب على الأزمة على عكس بعض البلدان الأخرى التي طبّقت سياسات الصندوق بحذافرها.
ومثّلت الأزمة الماليّة الأسيوية فرصة لنقد سياسات الصندوق الليبرالية. وأثارت نقاشا حول دوره وتدخّله في السياسات الاقتصادية والاجتماعيّة وضغطه على حكومات بلدان تطمح شعوبها إلى البناء والتقدم. وقد ذهب بعضهم إلى حدّ اعتبار الصندوق يكرّس سياسة استعمارية. غير أنّ المدافعين عن سياسات الصندوق يقولون إنّ هذه البلدان تلتجئ إلى الصندوق عندما يكون وضعها المالي سيّئا وتكون غير قادرة على الاقتراض من السوق الدولية، إضافة الى أنّ نسبة الفائدة الراجعة للصندوق ضعيفة جدّا.
لكنّ العديد من الأصوات تتعالى اليوم، حتى من بين الليبراليين أنفسهم، للإقرار بأنّ سياسات الصندوق تزيد من التداين وتفقير الشعوب، خاصة بالنسبة إلى البلدان النامية. ويعتبر البعض أنّ أكبر خطأ وقع فيه الصندوق هو تقديمه نفس الوصفة لكلّ البلدان دون الأخذ بعين الاعتبار لخصوصيات البلد. فهو يؤكّد دوما على التّفتّح على السوق وعلى الرأسمال الخارجي وعلى خصخصة المؤسسات العمومية والتقشف. وتُعتبر الأرجنتين مثالا للبلد الذي اتّبع بكلّ دقّة نصائح الصندوق ولكنه عاش أزمة ماليّة خانقة سنة 2000. وأكثر من ذلك، هناك من يتّهم سياسات الصندوق بتفتيت دول البلقان بمساهمته في تطوّر نسب البطالة والفقر بعد أن كان للدولة دور اجتماعي كبير الأهمية.
تجربة تونس مع الصّندوق
تونس عضو من أعضاء صندوق النقد الدولي. وقد عرفت في أواسط الثمانينات تجربة مريرة مع الصندوق، إذ مرّت بأزمة اقتصادية ومالية وطلبت منه مساعدتها وذلك بإقراضها لتجاوز الأزمة.
وقد طبّق الصندوق سياسته العامة وطرح على بلادنا برنامج إصلاح هيكلي تضمن خصخصة المؤسسات العمومية وفتح البلاد أقصى ما يمكن للرأسمال الأجنبي وتحرير التجارة الخارجية وتحرير سوق العمل. لكنّ البلاد لم تخرج من أزمتها بوصفة الصندوق.
وها نحن الآن نعيش وضعا مماثلا للثمانينات حيث تلتجئ بلادنا مرة أخرى إلى صندوق النقد الدولي الذي فرض شروطه مرة أخرى لتقديم قروض جديدة، ومن بين هذه الشروط “إصلاح المنظومة المالية والبنكية”. وقد تمّ أخيرا المصادقة على مشروع قانون يتعلق بالبنك المركزي والتحضير للمصادقة على قانون آخر يتعلّق بالمؤسسات البنكية. كما اشترط إعادة النظر في مجلة تشجيع الاستثمار لتمكين المستثمر الأجنبي من حريّة أكثر وحماية أكثر، ويعمل الصندوق على دفع الحكومة التونسية على مراجعة قوانين العمل والحماية الاجتماعية.
إنّ الصندوق الدولي آلية من آليات الرأسمال العالمي التي تعمل على تسهيل سيطرة قوى الاستعمار على ثروات الشّعوب واستغلال جهدها. وقد صاحب الفكر الليبرالي هذه المؤسسة منذ بعثها إلى حدّ هذا التاريخ. ولهذا يقف اليسار في العالم ضدّ هذه المؤسسة الاستعماريّة.