علي البعزاوي
في الوقت الذي تتّجه فيه الأوضاع العامة بالبلاد إلى مزيد التأزّم على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة والأمنيّة وتردّي الخدمات الصحية والتربوية والثقافية والبيئية، تصرّ حكومة الرّباعي على الاستنجاد بصندوق النقد الدولي والانخراط في وصفاته المدمّرة والعودة إلى مربّع القمع وشيطنة المخالفين في الرأي، غير عابئة بأصوات الرّفض والاحتجاج من قبل المعارضة الديمقراطية على اختلاف مشاربها ومن قبل الاتّحاد العام التونسي للشغل وعديد منظّمات المجتمع المدني التي بدأت تستشعر خطر الالتفاف نهائيا على ثورة الحرية والكرامة.
ولئن تحمّلت عديد القوى المدنيّة والسياسيّة مسؤوليّاتها، وفي مقدمتها الجبهة الشعبية التي توجّهت بمبادرة لتجميع قوى المعارضة من أجل إنقاذ البلاد ووضع حدّ لحالة التدهور، فإنّ الائتلاف الرّجعي الحاكم يبدو غير معنيّ بهذه الأزمة الشاملة ويتصرّف وكأنّ الأوضاع مستقرّة وعاديّة رغم مسؤوليّته المباشرة عنها.
حرب المواقع أضرّت بالبلاد
في مثل هذه الظّروف التي تمرّ بها البلاد يواصل حزب نداء تونس، الفائز الأوّل في الانتخابات الأخيرة، حرب المواقع من أجل السيطرة على الجهاز الحزبي وتسخيره لخدمة الأغراض الخاصة والمنافع الضيّقة. الصّراع لم يقف عند انشطار النّداء إلى حزبين، بل تواصل داخل ما تبقّى منه.
فليس البرنامج أو البحث عن أفضل الحلول للأزمة التي باتت تنخر البلاد هو ما يشغل بال الندائيّين، بل قيادة سفينة النّداء والتنفّذ داخلها. وفي هذا السّياق أجري تغيير على رأس الكتلة انجرّ عنه خلاف حادّ حول انضمام النوّاب المستقيلين من الاتحاد الوطني الحرّ إلى كتلة نداء تونس رغم التزام قيادة الرّباعي بعدم قبول أي نائب مستقيل من أحد أحزاب الائتلاف.
هذه الفوضى أثّرت سلبا على أداء الحكومة التي أصبحت فاقدة للسّند والدّعم وباتت بطيئة ومتردّدة ومعطّلة.
أما حزب حركة النهضة فهو منكبّ منذ مدة على الإعداد لمؤتمره وتشقّه صراعات بين كتلتين، الأولى تسعى إلى الحفاظ على ثوابت الحركة، باعتبارها جزء لا يتجزّأ من تنظيم الإخوان المسلمين. ولا ترى موجبا للتخلّي عن المرجعيّة الفكريّة التي تأسست عليها وتتمسّك ظاهريّا بـ”الانتصار” لمطالب الثورة، والمقصود هنا ليس التمسّك بالشّعارات الحقيقيّة للثّورة المطالبة بالشغل والحرية والكرامة الوطنية، بل فقط رفض التطبيع مع التجمّع المنحلّ الذي قطعت فيه النّهضة أشواطا ملموسة.
أمّا الكتلة الثانية فتدافع عن ضرورة الفصل بين الدّعوي والسياسي والذهاب بالحركة نحو حزب مدني دون التخلّي طبعا عن المرجعيّة الدينيّة والمضيّ قدما في العمل المشترك مع نداء تونس والتجمع المنحل وكلّ القوى المعادية للثورة والانخراط في مشروع المصالحة الشاملة وإملاءات المؤسسات الماليّة النهّابة.
النهضة خيّرت تسبيق مصالحها الحزبيّة الضيّقة والانكباب على أوضاعها الداخليّة وإعداد نفسها للمحطّات القادمة في انتظار الانقضاض على الحكم في الوقت المناسب. فالأزمة لا تعنيها مادام حزب النّداء هو المسؤول الأوّل عن حكم البلاد، ورغم أنّها تقود السفينة ولو بصورة غير مباشرة، فإنّ كلّ تعطّل أو فشل يحسب على هذا الأخير وهي براء منه.
الوطني الحر من جهته متفرّغ لإدارة أزمته الداخلية ومعالجة مسألة الاستقالات والحفاظ على الحزب من التّلاشي وعلى كتلته النّيابيّة موحّدة. أمّا حزب آفاق تونس فما انفكّ يناور من أجل فرض نفسه داخل الائتلاف والبحث عن التوسّع وكسب الأنصار في صفوف رجال الأعمال عبر استغلال مؤسسات الدّولة وإسداء بعض الخدمات، وله خلافات مع كلّ أطراف الائتلاف دون استثناء.
خلافات تشقّ الائتلاف الحاكم
الائتلاف الرّجعي الحاكم بكامل مكوّناته يعمل من أجل مصالحه الضيّقة وليس من أولويّاته البحث الجدّي عن سبل الخروج بالبلاد من أزمتها الخانقة. وعلاقات مكوّناته محكومة بالصّراع والتّنافس والاتّهامات المتبادلة والتّجاذبات.
فحزب آفاق تونس خرج عن الإجماع بعدم تصويت نوّابه على مشروع قانون البنك المركزي الذي كان على وشك السّقوط. وقد سبق له أن طعن في دستوريّة قانون المجلس الأعلى للقضاء وسعى إلى عزل كتلة حركة النهضة بمحاولة تشكيل كتلة “الجبهة البرلمانية الجمهورية”.
الوطني الحرّ يعيش هو الآخر خلافات حادّة مع نداء تونس سببها التّعيينات في سلك المعتمدين والولاّة وأخيرا التحاق مجموعة من نوّابه المستقيلين بكتلة النّداء وقد شنّت حملات بين الطّرفين، وقع الحديث فيها عن رشاو دُفعت للنّواب الثّلاثة.
الصّراع بين حزبي النّهضة والنّداء مرّ بمراحل مختلفة، فتارة يحتدّ وأخرى يتراجع. ورغم التّفاهم والتّنسيق المتواصل بين السبسي والغنوشي في الفترة الأخيرة، والذي استثمرته النهضة لخدمة أجنداتها، فإنّ هذه الأخيرة تبقى متّهمة بتأجيج الخلافات صلب العائلة النّدائيّة والاستفادة من الانقسامات داخلها.
أمّا في ما يخصّ الموقف من حكومة الحبيب الصيد، فيبقى الحزبان مختلفان. ففي حين يبحث النّداء عن الظّرف المناسب للاستعاضة عنها بحكومة سياسيّة، فإنّ النّهضة تفضّل استمرارها لأنّها تعتبرها طيّعة وتستطيع من خلالها قيادة دفّة الحكم دون خسائر.
الائتلاف يتّجه إذا نحو مزيد من الارتباك والتصدّع والخلافات بين مكوّناته، ستزداد حدّة وتعقيدا مع تفاقم أزمة البلاد. وقد يجد الحلّ لتجاوز أزمته في إقالة حكومة الحبيب الصيد التي سترمى على عاتقها مسؤوليّة فشل اختياراته اللاّشعبية واللاّوطنية.
دور المعارضة الدّيمقراطية
إنّ استفحال الأزمة وعجز الائتلاف الرّجعي الحاكم عن معالجتها بما ينسجم وأهداف الثورة وإصراره على المضيّ في نفس الخيارات القديمة قد خلقت الظروف الموضوعيّة المناسبة للمعارضة الوطنيّة حتى تتحمّل مسؤوليّاتها وتعود من جديد إلى المشهد السياسي بعد أن أربكها التّحالف بين حزبي النّهضة والنّداء وأضعف قدرتها على التأثير في مجريات الأحداث، وبإمكانها اليوم الانتقال من حالة الانتظار والتردّد إلى الفعل الميداني.
ولعلّ المبادرة السياسيّة التي أطلقتها الجبهة الشعبيّة، في حالة نجاحها في توحيد المعارضة الديمقراطية والمدنيّة وتشكيل ائتلاف وطني واسع حولها ينتصر للشعب ولأهداف الثورة ويؤسّس لاستقطاب جديد في البلاد، ستكون قادرة على وضع حكومة الائتلاف الرّجعي الحاكم أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا التّنازل والبحث عن التّوافق من أجل حلول ومعالجات جديّة للخروج بالبلاد من الأزمة أو الرّحيل.