أتمّت حركة النهضة إنجاز مؤتمرها العاشر، هذا المؤتمر الذي “ملأ الدنيا وشغل الناس” وهو مؤتمر استثنائي بمقتضى الدّعوة إليه من قبل المؤتمر الفارط الذي أنجزه منذ عامين، والذي لم يتمكّن من مناقشة المضامين وخاصة تلك المتعلقة بتقييم تجربة الحركة في فترتي ما قبل الثورة وتجربة الحكم أو المتعلقة بإعادة النظر أو مراجعة أو تحسين الأرضية الفكرية المعروفة في أوساط الحركة وعند متتبعي الشأن السياسي بـ”الرؤية الأصولية”. وقد انكبّت الحركة منذ انتهاء المؤتمر السابق في الإعداد الذي انطلق رسميا منذ أشهر بإنجاز المؤتمرات المحلية والجهوية. فهل شكّل هذا المؤتمر فعلا تحوّلا فكريّا وسياسيّا كما سوّقت له حركة النهضة ومختلف قياداتها؟
مؤتمر الاستعراض والتّطبيع مع النّظام السّابق
لقد كان الاتجاه العام للمؤتمر موجّها في جزئه الأهم إلى خارج الحركة، حلفائها وخصومها داخل تونس، وإلى الخارج دولا ومؤسسات وهيئات قرار. فالحركة بعد مشاركتها في تجربة الحكم الأولى (الترويكا) والثانية (الرباعي) في وضع محلي واقليمي ضاغط خاصة بعد الفشل الذريع لتجربة حكم الاخوان في مصر (الحركة الأم) وكذلك في ليبيا التي تحولت إلى بلاد بلا دولة بمقتضى الحرب الأهلية الشرسة التي تشكل الحركات الاخوانية جزء أساسيا فيها، الحركة أرادت التكيف مع هذه الأوضاع والانحناء حتى تمر العاصفة، فاتخذت في شخص رئيسها عديد المبادرات الدافعة في هذا الاتجاه، اتجاه الحفاظ على موقع فوق الأرض وتحت الشمس. وقد لعبت القوى الخارجية من دول غربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة ومؤسسات مالية واقتصادية وسياسية، دورا حاسما في فرض سلوك معين على الحركة وخاصة من جهة إحداث الطلاق مع الخطاب الثوري والدخول في الواقعية السياسية التي بلغت ذروتها في إزالة كل جليد مع النظام السابق من خلال التخلي عن قانون العزل السياسي الذي اقترحه نوابها مع نواب حزب المرزوقي في المجلس التأسيسي، ووضع اليد مع المنظومة السابقة خاصة منذ لقاء باريس وطرح مبادرة “العفو الشامل” والتواصل سرا وعلنا مع رموز نظام بن علي الذين حضر عتاتهم افتتاح المؤتمر مثل عبد الرحيم الزواري فضلا عن حضور السبسي وتصدّره المنصة صحبة الغنوشي تكريسا لظاهرة “الشيخين” القائدين الملهمين وما ترمز إليه هذه الصورة من رسالة سياسية عميقة تؤكّد التواصل والمصالحة والتكامل بين منظومتي حزب الدستور والنهضة، والذين طالما أكّدت أدبيّاتنا عن كون جوهرهما واحد، علما وأنّ رئيس كتلة نداء تونس في البرلمان أكّد بعظمة لسانه أنّ النهضة بخطابها وسلوكها الجديد إنما تتبنّى نفس توجّه النداء (القناة الأولى 24 ماي 2016).
إنّ الطور الجديد فرض على النهضة توجيه رسائل في حفل الافتتاح مفادها أنها حركة حداثية عصرية ومنفتحة خاصة وأنّ الصفوف الأولى في ملعب رادس كانت لممثلي النظام السابق وأحزاب المعارضة وسفراء البلدان الغربية وغيرهم.
لكن وكما ستنسف مداولات المؤتمر وأشغاله هذه الرسائل، فإنّ بعض مضامين الحفل الافتتاحي بقيت أسيرة حقيقة حركة النهضة كحركة عقائدية انغلاقية رجعية، مثال ذلك رفع صور من تورّطوا في أعمال عنف على أنهم شهداء مثل “محرز بودقة” الذي أُعدم سنة 1987 على خلفية تفجيرات النزل في المنستير وسوسة أو تخصيص جانب كبير من خطاب الغنوشي لمناضلي حركته وتمجيد تاريخهم وتجربتهم الملونة “بالتضحيات والبطولات” ممّا يعكس سطحية في التقييم وتشبّثا بنفس التجربة دون شجاعة في إبراز أخطائها التي يذهب العديد إلى كونها لم تكن أخطاء بل هي حقيقة الحركة وجوهرها كحركة إخوانية ظلامية تعتمد كلّ الوسائل وكلّ الطرق للوصول إلى ذات الهدف وهو الحكم والتّحكّم في إطار رؤية شمولية ماضوية.
إنّ قيادة حركة النهضة ورغم وعيها الحاد بكونها تحت الأضواء، إلاّ أنّ “الطبع غلب التطبع” بما خلق قناعة واسعة أنّ هذا المؤتمر كأنه لم يكن. وقد أثبتت نقاشات المضامين في القاعات المغلقة أن لا شيء تغيّر في الأصل رغم تصريح الغنوشي عشية المؤتمر بكونه مصر على أن يتغيّر ويغيّر هذا. وقد بدأت ملامح الصراع بين الأجنحة والكتل منذ أوّل وهلة بمناسبة انتخاب رئيس المؤتمر وكذلك بغياب رموز مثل عامر العريض وسمير ديلو الذي طرح أكثر من سؤال.
على جلولي