بقلم فاتن حمدي
بداية شهر جوان 2011 انتخبت نجيبة الحمروني بإجماع جميع الصحفيين نقيبة للصحفيين في أوّل مؤتمر بعد الثورة لتعاد بذلك الشرعية للمكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بعد الانقلاب عليه في أوت 2009 والمدبّر من قصر قرطاج وبمعية عبد الوهاب عبد الله ومن معه حينها من المكتب الأوّل.
لم تكن هذه بداية نجيبة الحمروني ولا الأخيرة، بل كانت إحدى محطّاتها في الدفاع عن شرف وأخلاقيات المهنية وعن حقوق أبناء القطاع من مختلف المؤسّسات. وقد عرفها الجميع حتّى خصومها بقوّتها وشجاعتها و بسالتها في الدفاع عن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريّة، فقد كانت دائما “تتنفّس حريّة”.
بدايات نجيبة الحمروني التّي تربّت وترعرعت في مدينة البطّان، كانت طالبة في معهد الصحافة وعلوم الإخبار خلال التسعينات لتتخرّج منه سنة 1995 وتلتحق فيما بعد بجريدة الصباح. وقد عرفها الجميع بصاحبة القلم المتميّز. إلاّ أنّها تعرّضت إلى الطرد التعسّفي بعد فترة، لتتدخّل جمعية الصحفيين التونسيين آنذاك وتفرض عودتها إلى العمل بعقد عمل لمدّة عام. لكن المدير العام وبمجرّد انتهاء مدة العقد عمد إلى طردها نهائيا من جريدة الصباح رغم كفاءتها.
حادثة الطرد الذّي تعرّضت إليه النقيبة نجيبة كانت نقطة مفصلية في تاريخها وتجربتها المهنية، جعلتها فيما بعد تتحوّل إلى مدافعة شرسة عن زملائها الصحفيين من أجل حقّهم في العمل والكرامة، لتنتقل فيما بعد إلى مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث “كوثر” أين تحقّق استقرارها المهني إلى أن غيّبها الموت عنّا.
خلال شهر جانفي 2008، انتخبت نجيبة الحمروني بخطّة أمين مال ضمن أوّل مكتب تنفيذي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بعد أن كانت جمعية قبل هذا التاريخ، فرغم محاولات قصر قرطاج حينها تنصيب موالين له، إلاّ أنّه ولأوّل مرة في تاريخ السلطة الرابعة تمكّن عدد من المستقلّين من الفوز بثقة زملائهم والظفر بمكتب تنفيذي لأوّل نقابة في تاريخ القطاع. لكن لم تمض إلاّ سنة واحدة على الانتخاب وبمجرّد عرض تقرير الحرّيات يوم 3 ماي 2009(بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي لحريّة الصحافة) والذي تضمّن وصفا للواقع الهشّ للصحفيين ومصادرة حقوقهم والتضييق على الحرّيات وسياسة التعليمات من وكالة الاتّصال الخارجي وقصر قرطاج، ثارت حفيظة أبناء القصر والتعليمات لتنطلق الاستقالات من المكتب التنفيذي ما مهّد الطريق لعقد “مؤتمر استثنائي” بمباركة قصر قرطاج تمّ عقده يوم 15 أوت 2009 وعمدت خلاله عدّة أسماء إلى ترهيب الصحفيين من خلال عرائض ودفعوا إلى الحضور. وقد حضر فعلا قرابة 600 صحفي، لإضفاء “الشرعية” على مكتب منقلب سرعان ما وجّه بعد “انتخابه” رسالة شكر وتأييد لنظام بن علي.
هذه المحطّة الثانية في تاريخ نجيبة الحمروني لم تكن إلاّ دفعا لها مرّة أخرى وشحنة جديدة في الدفاع عن الحريّات والحقوق، فرغم الهرسلة والتضييق والقضايا الزائفة التّي رفعت ضدّها عندما شغلت منصب أمين مال سنة 2008 ومحاصرة أعوان البوليس السياسي لها خلال تلك السنوات، لم تعترف أبدا بالمكتب المنقلب وظلّت تدافع بنضالية عن حرّية الصحافة والتعبير.
مباشرة بعد الثورة، عقد مؤتمر النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين خلال شهر جوان 2011، لتعاد الشرعية لمكتب سنة 2008 وفي أجواء ديمقراطية انتخبت الحمروني نقيبة للصحفيين بأغلبية أصوات زملائها، ومرّة أخرى لم تكن هذه المحطّة الأخيرة لها، بل كانت إحداها، لتتولّى فيما بعد معركة الدفاع عن المرفق العمومي (مؤسّسة التلفزة والإذاعة التونسية). فرغم تخلّي حزام من أصدقائها عنها إلاّ أنّها وبشراستها المعتادة واصلت نضالها ودفاعها عن الحرّيات عبر تنظيم القطاع وهيكلته، حيث ساهمت النقيبة نجيبة في تركيز الهيئة المستقّلة لإصلاح الإعلام والاتّصال وساهمت أيضا في إصدار المراسيم المنظمة للقطاع (المرسومين 115 و116) والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري رغم الحملات التشويهية التي تعرّضت إليها حينها.
حملات التشويه والثلب والشتم في حقّ النقيبة نجيبة الحمروني لم تنته، فقد عمدت صفحات مشبوهة أشرف عليها حتّى بعض “الصحفيين” وصحيفة مقرّبة من حركة النهضة (جريدة الضمير) إلى نشر صورة مشوّهة لها والتّي لم تدّل إلاّ على عنصرية مسؤوليها تجاه النقيبة السمراء والشجاعة، لأنّها تمسّكت وقادت أوّل إضراب عام في تاريخ صاحبة الجلالة بتاريخ 17 أكتوبر 2012 ثمّ إضراب ثان جمّع كل أبناء القطاع حول نقيبتهم.
عرفها الجميع بذاك الحبّ اللاّمتناهي لزملائها واحترامها الشديد لشرف المهنة، عرفها الجميع حتّى خصومها بالعنيدة والمرأة الحديدية، وكانت تتقبّل حملات التشويه والثلب والتجريح في حقّها بابتسامة وهدوء، فقط لأنّ هاجسها كان الدفاع عن الحرّيات وحقوق الإنسان وعن الديمقراطية. هكذا كانت النقيبة نجيبة وستظلّ، بصدقها وحبّها للجميع رغم محاولة البعض إرباكها والحطّ من عزيمتها، لكنّها كانت دوما الفتاة السمراء صاحبة القلب الصادق. فهكذا كانت نجيبة الحمروني.
كلّ من عرفها خلال ترأّسها للنقابة، يعلم أنّها كانت تمضي جلّ يومها في مكتبها تتابع بشكل يومي ملفّات القطاع والعاملين به. يعلم الجميع أنّها أهملت صحّتها مع بدايات تمكّن السرطان منها، لم تعط لنفسها فرصة للعلاج. حتّى والدتها لم تكن تعلم حقيقة مرضها، فعدد من أصدقائها المقرّبين فقط كان على علم بما ألمّ بها. وكما قاومت الاستبداد والظلم حاولت أن تقاوم هذا المرض اللعين في صمت ودون أن تشكو ألمها. لم تكترث النقيبة بصحّتها بقدر اكتراثها بالحرية، فقد كانت دوما “تتنفّس حريّة”.
انسحبت النقيبة عن المشهد في صمت لكنّها كانت تتابع وتحثّ أبناءها وبناتها على ضرورة مواصلة النضال من أجل قطاع نقيّ وشريف، من أجل شرف المهنة وحقّ الصحفي في العيش الكريم ومن أجل حريّة التعبير والصحافة لأنّ المعركة لم تنته أبدأ.
غيّبها الموت عنّا مساء الأحد 29 ماي 2016 بعد صراع مع المرض، غيّبها عنّا في شهر مولدها، شهر حرّية الصحافة. بكاها أحبّتها وأبناؤها وبناتها، بكاها الجميع من أنحاء العالم، فهي لم تكن مجرّد نقيبة بل كانت مناضلة ومدافعة شرسة عن الحقوق والحريات. رحل جسدها لكنّها ستظلّ دوما في قلوبنا وسنكمل مسيرتها نحن بناتها وأبناؤها. فلتتنفسّي حريّة يا نقيبتنا ولترقدي بسلام.
*************************************
كلمات خالدة للنقيبة نجيبة الحمروني:
من لا يتبنّى قيم الديمقراطية والحريّة وحقوق الإنسان ويتجاهل دوره الأساسي في بناء المجتمع وحمايته من مختلف الأخطار عبر نشر حقائق، يتحوّل إلى صحفجي وعشبة طفيلية تضرّ القطاع برمّته.