تعيش الساحة السياسية والإعلامية ببلادنا على إيقاع جدل صاخب حول ظاهرة الفساد المالي والإداري الذي ينخر تقريبا جميع مفاصل الدولة التونسية ويطال مختلف القطاعات والمجالات المتصلة بحياة السواد الأعظم من التونسيات والتونسيين.
فكل المؤشرات وجميع المعطيات المتعلقة بما يدور حول هذه الآفة يدفع إلى الاعتقاد باستمرار هذا الجدل وتوسّعه إلى فضاءات جديدة من الوارد جدّا أن تعزز من الوعي المجتمعي المتزايد بخطورة هذا الداء الذي استفحل بشكل مريع تحت الحكومات المتعاقبة بعد هروب الطاغية. فما لا شك فيه أنّ هذه الآفة موروثة عن حكم المخلوع، وما لا جدال حوله أيضا أنّ طموح القضاء على الفساد ومحاسبة المفسدين مثّلا دافعا قويا للشعب الثائر قبل 14 جانفي 2011.
ولعل مجرد استحضار شعار وحيد في هذا الصدد يغنينا عن الإطناب في الاستدلال على قولنا، كيف لا؟ وشعار “لا لا للطرابلسية الي سرقوا الميزانية” كان أيام الثورة الأكثر حضورا ليس فقط على حناجر الغاضبات والغاضبين في كل الساحات العامة من الشمال إلى الجنوب، وإنما الأبرز على جدران المباني العامة والخاصة بالمدن والأرياف.
فالأغرب من استمرار الفساد كل هذه السنوات تحت حكومة تتزين بالثورة واستحقاقاتها هو الانتعاشة غير المسبوقة للفساد والمفسدين. فالفيروس الموجود تناسل واشتد عوده واكتسب مناعات إضافية تحت حكم “الترويكا” والحكومة الحالية.
ومن نافلة القول إنّ ذلك التفريخ والتّقوّي قد تمّ على حساب النهوض باقتصاد البلاد والحد من التأثيرات المدمّرة لآفة البطالة بما تعنيه من تهميش واسع لفئات اجتماعية بأكملها وجهات برمتّها.
والأنكى من ذلك أنّ الخطاب الرسمي لحكام تونس الجدد ظل حتى أشهر قليلا متمترسا إمّا بالصمت المطلق وعدم الاكتراث بنقودنا لاستشراء هذا الداء أو الاعتراف الخجول به مع الجنوح الدؤوب إلى المنطق التبريري الذي لا طائل من ورائه. فالمتمعن في الخطاب السياسي للمتنفّذين الجدد قد يقف في الأسابيع القليلة الأخيرة على نبرة جديدة في مقاربتهم لهذه المعضلة الخطيرة وهذه انعطافة محدودة وشكلي لن تتجاوز حدود الخطب واللغو الديماغوجي، فرضها أوّلاً وقبل كل شيء منطق التعاطي “الإيجابي” مع توصيات الدوائر المالية الإمبريالية النهابة وتعليماتها (صندوق النقد الدولي – البنك العالمي…) التي أزعجها ثقل الفساد وأحجامه المتعاظمة على مصالحها، وثانيا تكاثر الفضائح المتعلقة بهذا الصدد وانتشارها على نطاق واسع محليا وعالميا. فالإقرار الرسمي بوجود هذه الظاهرة وضرورات مكافحتها يأتي اليوم شديد التأخير، إضافة إلى أنه قرار سطحي ومغشوش يكتفي بإعلاء الأصوات لامتصاص مشاعر الغضب المتنامي من “الطرابلسية الجدد” وتكاثر أعدادهم وازدياد جشعهم بأشكال خرافية وأسطورية فاقت سابقيهم.
فالأهم من الإقرار في نظرنا من قبل الحاكمين هو إيجاد السبل والآليات الكفيلة بمحاربة الفساد والمفسدين. وفي هذا الصدد تأتي الوقائع عنيدة ومدينة للائتلاف الحاكم. ذلك أنّ الانتعاشة المتعاظمة لبارونات الفساد والإفساد تتم ضمن سياق يشجع على الإفلات من العقاب سواء لمن عاثوا فسادا قبل الثورة أو بعدها. وثانيا تحت رعاية قانونية جديدة لعل آخرها المصادقة الفضيحة من قبل الأغلبية البرلمانية على قانون تسوية وضعيات الاستغلال غير القانوني لمقاطع الحجارة الرخامية ببلادنا. وثالثا وضع العراقيل وتنوّعها أمام الهيئات المستقلة لمنعها من التقدم الفعلي والسريع في كشف أحجام الفساد وإماطة اللثام عن الواقفين وراءه سواء من المتنفّذين في الحكم أومن المستفيدين منه في المجتمع وفي هذا الباب تكفي الإشارة إلى حجم العراقيل والمعوقات التي تتخبط فيها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. تلك التضييقات التي وصلت حدود مفزعة تُنذر بمخاطر المرور إلى المكروه بما يعنيه من تصفية جسدية للسيد شوقي الطبيب رئيس تلك الهيئة الذي سبق أن صرّح بما معناه أنّ للفساد والمفسدين شركاء في مناصب عليا بالدولة.
والحقيقة أنّ هذا الإعلان وحده كفيل بأن يجعل محاربة هذه الآفة والحد من مخاطرها وتطويقها حتى لا تأتي على الأخضر واليابس الذي يرمي نهائيّا بالدولة التونسية إلى أحضان وأيادي المافيات المالية والسياسية يجعل من مهمة مقاومة الفساد شأنا مجتمعيا وشعبيّا بامتياز، يتطلب تصميما كبيرا على خوض المعركة حتى نهاياتها، مع الوعي التام بضرورة وضع هذه المعركة ضمن أفق أعم وأشمل يستهدف إنقاذ تونس وشعبها من هذا التردي الخطير الذي تتجه إليه الأوضاع على جميع الأصعدة.
عمار عمروسية