علي الجلولي
باحت يوم 18 جوان الجاري نتائج الدورة الأولى لمناظرة الباكلوريا بأسرارها.وقد بلغت ﻧﺴﺐ ﺍﻟﻨﺠﺎﺡ العامة في هذه اﻠﺪﻭﺭﺓ 33،12°/°، وقدّرعدد الناجحين بـ42.587 تلميذا من مجموع 135.612 مترشحا، فيما بلغ عددالمؤجلين 41.172 تلميذا أي بنسبة 32،02°/°، وعدد الراسبين 44.617 أي بنسبة 34،70°/°.
هذا وقد اعتبر وزير التربية، في ندوة صحفية للغرض،الدورة ناجحة واستثنائية وبدأت في إعادة البريق المفقود إلى مناظرة الباكالوريا. فهل فعلا كانت هذه الدورة ناجحة؟
المناظرة تكشف المستور
انشدّ الرأي العام التربوي والوطني إلى الجدول الترتيبي للمندوبيات الجهوية من حيث عدد الناجحين، هذا الجدول الذي يؤكّد ما يريد مسؤولو الدولة إخفاءه وعدم التداول فيه، وهو كون النتائج إنما هي انعكاس لحقيقة الأوضاع المادية التي تجري فيها هذه المناظرة، والتي يعرف العديد أنها غير متكافئة منذ عقود. فالبنية الأساسية في المناطق الداخلية متخلّفة ومتآكلة وغير صالحة أصلا. وقد كشفت بعض وسائل الإعلام في بعض المرات أوضاعا كارثية تجري فيها العملية التربوية مثل غياب الأساسيات، من مجموعات صحية ومياه الشرب والتيار الكهربائي، حتى أنّ أحد وزراء التربية أمضى اتفاقية مع زميله وزير الفلاحة لتزويد بعض المدارس بالماء الصالح للشراب من خلال “ستيرنات”، علما وأنّ هذا الوضع تسبّب في انتشار الأوبئة مثل الالتهاب الكبدي الذي أودى بحياة تلميذة يافعة في الرقاب، وفرض إغلاق المدارس بسبب انتشار”القمل” في بوحجلة والعلا… كما أنّ الجدران كثيرا ما تهاوت في واضحة النهار مثلما حدث مؤخرا في المغيلة في سيدي بوزيد، حيث تعيش المدارس تحت القصف الإرهابي. لقد خيّرنا الحديث عن الأساسيات أو الشروط الإنسانية الدّنيا لقيام مدرسة وتمدرس، أمّا عن البنية الأساسية البيداغوجية، فحدّث ولا حرج، فآلاف التلاميذ في المناطق المحرومة والمغبونة يُنجزون دروسهم دون مخابر ولا خرائط ولا حواسيب ولا حتى المعدّات البسيطة لدرس الرياضيات مثل الكوس والبركار، وكثيرة هي المعاهد التي تبعد عن مقر السكن عشرات الكيلمتراتيتكبّدها التلاميذ صباحا مساء، وآلاف هم التلاميذ الذين لا يتمكّنون من تناول غدائهم في بيوتهم، بل أمام المعاهد في القرّ والحرّ، يأكلون ما تيسّر من أكلات غالبا لا تفي بغرض التغذية. في المقابل من ذلك يتوفّر لدى معاهد الأحياء الغنية أهمّ شروط العملية التربوية التي تنعكس وجوبا في النتائج، فتدحرج ولايات الفقر والحرمان إلى آخر الترتيب لا يعني نقصا في الذكاء، بل نقصا في الإمكانيات التي تتحمّل الدولة وحدها مسؤوليتها.
الأرقام المفزعة
بالعودة إلى الأرقام المنشورة حول نتائج الدورة الرئيسية،يتبيّن لنا دون غموض حقيقة الوضع التربوي في بلادنا بعد خمس سنوات من الثورة، فلئن حافظت جهة صفاقس(مندوبيتي صفاقس 2و1) على هرم الترتيب بـ55.23و54.93°/°، وجهات أريانة والمنستير وسوسة وبنعروس وتونس في مقدمة الجهات، فإنّ جهات أخرى لم يتجاوز عدد الناجحين من أبنائها نصف عدد ناجحي دائؤة صفاقس 2، مثل باجة وسيدي بوزيد وتوزر التي لم تتجاوز نتائجها الـ27°/° (وهي تباعا: باجة:27.94°/°، سيدي بوزيد: 27.7 °/°، توزر: 27.68°/°). أمّا آخر الترتيب فكان من نصيب جهات: قبلي:24.44°/° (المرتبة 24) ثم قفصة بـ23.81°/° (المرتبة 25) وأخيرا القصرين بـ 21.94°/° (المرتبة 26). هذا واحتلت جهات سليانة وقابس ومنوبة ومدنين على مواقع وسطى، فيما تقدمت جهة المهدية على جهة سوسة واحتلت الموقع الخامس.
إنّ الدارس الاجتماعي لهذه الأرقام لن يجد أيّ عناء في تفكيك شيفرة هذه الإحصائيات، فالنتائج مرتبطة رأسا بالنصيب من الثروة التي تتوزع بشكل غير عادل بين مختلف جهات البلاد، ولا غرابة أن نجد الجهات التي فيها أكثر نسب للفقر والبطالة وتخلف البنية الأساسية لمختلف القطاعات، نجدها في آخر ترتيب النتائج. لقد أسمعتنا الدولة خاصة منذ صعود الائتلاف اليمين الحالي للحكم، أنها ستعطي للمدرسة كلّ الإمكانيات وستستثمر في التعليم الذي هو استثمار في الإنسان، وأسمعنا الوزير ناجي جلول عكاظيات حول برامجه ونواياه وأهدافه التي تقارب أهداف المسعدي مع الحكومة الأولى لما بعد الاستعمار، وفتحت الورشات في المؤسسات التربوية للإصلاح والتهذيب…والتي صرف عليها أبناء الشعب من مربّين وتلاميذ من جيوبهم رفضا منهم لتدخل الأغنياء وأصحاب الثروات الذين يريدون وضع اليد على المرفق العمومي وفي مقدمته المدرسة، وتفّهما منهم للأوضاع الاستثنائية التي تعيشها البلاد، ورغم ذلك فإنّ الوزير وحكومته أرادوا استثمار كلّ ما يجري لتبييض وجوههم ووجه حزبهم إذ لم يتردد الوزير بتسمية الكتاب الأبيض حول الوضع التربوي واتجاهات إصلاحه بكونه برنامج نداء تونس، لكن ومهما كانت الديماغوجيا المتّبعة فإنّ نتائج الباكالوريا قالت الحقيقة، كلّ الحقيقة حول الوضع المزري للمنظومة التربوية.
التّعليم في تونس طبقي وانتقائي
إنّ مزية هذه الأرقام ورغم مرارة ما تخفيه، هي إعطاؤنا الأدلّة القطعية على صحّة قراءتنا للأوضاع، وجدول النتائج يكشف الوجه الطبقي والاجتماعي لمنظومة التعليم. فالجهات المحرومة وغير المحظوظة والمفقّرة رغم ما تحتويه من إمكانيات وثروات مثل قفصة، يبقى نصيبها من النجاح والتفوّق محدودا، أمّا نصيبها من الفقر والتهميش ففي تصاعد.
إنّ هذه الأوضاع تحرم جزء من أبناء تونس من مواصلة الدروس وهم في حدود 120ألف سنويا جلّهم من المناطق الأفقر، وهذا الرقم يشكّل كارثة وطنيّة بأتمّ معنى الكلمة. أمّا من تمكّن من التّمدرس، فيتمّ ذلك في ظروف بائسة وتعيسة وأحيانا لاإنسانية، وحتى الجهات التي كانت في صدارة الترتيب، فإنّ محتواها مفزع أيضا. فلا نعتقد أنّ النتائج في جهة صفاقس متعادلة أو حتى متقاربة بين المدينة والصخيرة أو الحنشة أو بئر علي. وفي أريانة لا نعتقد أنّ نتائج معاهد حي النصر والمنازه، هي نفسها في رواد. وهذه القاعدة تشمل كلّ الجهات دون استثناء، فالنتائج متفاوتة حسب المعتمديات والأحياء، والمحدّد دائما هو الوضع الاجتماعيالمكرّس للانتقاء وعدم تساوي الفرص.
إنّ وضعا مزريا كهذا يدفع ثمنه بنات تونس وأبناؤها من ذوي الأصول الطبقية المفقّرة. فأبناء العمّال والفلاّحين الفقراء والمعطّلين والمهمّشين، كما أبناء الجهات المحرومة، هم أقلّ حظّا في الانتفاع بالمرفق العام الذي يُموّل من جيوب الكادحينوأولى أن ينتفع به أبناؤهم بالتساوي مع كلّ تلاميذ تونس.
ومع ذلك، نقاط مضيئة
ونحن نستعرض الواقع الأليم للمنظومة التربوية، لايمكن أن نغفل عن تهنئة المتفوّقين الذين كسروا القاعدة السائدة هذا العام، إذ كان أغلب المتفوّقين سابقا من المعاهد النموذجية، فإنّ نتائج هذا العام لم تُعط للمعاهد النموذجية أكثر من ثلاثة متفوّقين من أصل سبعة يمثّلون مختلف الشعب (2من المعهد النموذجي بنابل و1من المعهد النموذجي بسوسة)، والأربعة الباقين هم من معاهد ثانوية “عادية” في أكودة (سوسة) ومنزل جميل والعالية (بنزرت)والشابة (المهدية)، وهو ما يطرح موضوع مشروعية وجود هذه المعاهد التي لم تكرّس سوى التمييز ولم تنتج الامتياز الموعود. وككلّ عام تتميّز بنات تونس وحرائرها،فمن جملة السبع الأوائل في مختلف الشعب، كانت أربعة من بناتنا في المقدمة، وهن: أحلام الرابحي (آداب- بمعدل: 16.55)، سيرين سلامة (العلوم التجريبيةبمعدل: 19.54)، هيفاء تابعي (الاقتصاد والتصرفبمعدل:17.62)، أميمة النصري (رياضةبمعدل 16.80). أمّا بقية المتميّزين، فهم: آدم خشناوي (الرياضياتبمعدل 19.77)، أسامة الجمني (العلوم التقنيةبمعدل:19.27)، كريم رجب (علوم الإعلاميةبمعدل: 17.62).