مرتضى العبيدي
منذ شهرين، أصدر الباحث في التاريخ المعاصر د. خميس عرفاوي ترجمة لكتاب “معارك عمّالية: جامعة عموم العملة التونسية والامبرياليون الفرنسيون خلال العشرينات”، نصوص كان المناضل “جون بول فينيدوري” كتبها إبّان تأسيس المنظمة النقابية التونسية الأولى على يد محمد علي الحامي وبعد الهجوم عليها من قبل السلطات الاستعمارية، ونشرها المناضل العمّالي “روبير لوزون” في مجلة “الثورة البروليتارية”. نصوص مازالت تحافظ على وهجها رغم مرور قرن على كتابتها، وهي لا تنتمي إلى صنف التاريخ الذي يكتبه المؤرخون، بل إلى التاريخ الذي يصوغه المناضلون على أرض المعركة قبل تدوينه في نصوص أو كرّاسات أو كتب.
أردت الإشارة إلى هذه الملاحظة وأنا بصدد تقديم كتاب جيلاني الهمّامي الصادر أخيرا تحت عنوان “الاتحاد العام التونسي للشغل: قراءة من الداخل” (الثقافية للنشر، ماي 2016) لأني أعتقد أنّ هذا الكتاب ينتمي إلى هذا الصنف من الكتابة التي أسّس لها في تونس الطاهر الحدّاد لمّا نشر “العمّال التونسيون وظهور الحركة النقابية” وفينيدوري اللذان لم يُعايشا فقط ميلاد أولى التجارب النقابية التونسية، بل ساهما فيها من مواقع متقدمة. ويمكن أن ندرج ضمنها الكتابات العديدة للشهيد فرحات حشاد التي تمّ تجميعها بعد وفاته في عديد الكتب. فهذا النوع من الكتابة الذي يصاغ في وهج النضال يُكتب عموما للتأريخ للحظة كما عاشها الكاتب، لا ككاتب أو كمؤرخ يأخذ مسافة من الأحداث، ويسعى إلى الموضوعية، بل كمناضل فاعل من داخل الأحداث التي يتناولها بكل ما في ذلك من مخاطر السقوط في التقييمات والأحكام الذاتية.
المحطّات الكبرى في تاريخ الحركة النّقابيّة
ففصول الكتاب الواقع في 400 صفحة أدرجها الكاتب ضمن خمسة أقسام، خصّص الأوّل منها إلى “قراءة في تاريخ الحركة النقابية التونسية” ويحتوي على خمسة فصول جمع بينها بُعدها التاريخي أي اهتمامها بتاريخ الاتحاد والحركة النقابية في مجملها أو ببعض المحطات المفصلية في هذا التاريخ كالفصل الثالث الذي خصّص لمعركة 26 جانفي 1978 أو الفصلين الخامس والسادس اللذين خصّصا لتقييم المؤتمر الحادي والعشرين للاتحاد (المنستير، ديسمبر 2006).
أمّا الفصل الأوّل وهو الأكثر شموليّة والذي امتدّ على 42 صفحة، فهو مداخلة ألقاها الكاتب في ندوة تكوينية نظّمها سنة 2004 قسم المرأة والشباب العامل والجمعيات بالاتحاد العام التونسي للشغل، تناول فيها تاريخ الحركة النقابية التونسية منذ نشأتها أي على امتداد قرابة القرن من الزمن، وأبرز فيها قراءته الخاصة لتاريخ هذه الحركة الذي يكاد يكون حسب رأيه “تاريخ أزمات” أو “قطائع” (ج قطيعة)” تمحورت في البداية حول الاستقلال عن النقابات الفرنسية الاستعمارية وطرح المسألة الوطنية في عهد الاستعمار المباشر، ثمّ حول الاستقلالية عن الحزب الحاكم وعن الدولة، وحول الديمقراطية والنضالية فيما بعد في ظلّ الدولة التونسية وهيمنة الخطّ البيروقراطي” (ص 21)، والمحاور الثلاثة الأخيرة أي الاستقلالية والديمقراطية والنضالية فكانت لبّ مادة الفصل الموالي “قراءة في الوضع الرّاهن للحركة النقابية” وهو نصّ المداخلة التي ألقاها جيلاني الهمامي على منبر منتدى الموقف في جوان 2003.
معركة الدّيمقراطيّة النّقابيّة
أمّا القسم الثاني، فقد عنونه المؤلف “الديمقراطية النقابية معركة لا تتوقّف”، وهي المعركة التي خاضها اليسار النقابي داخل الاتحاد منذ أواسط السبعينات، لمّا بدأت تتوافد عليه وتنخرط فيه أعداد مهمّة من خرّيجي الجامعة التونسية الذين خاضوا لأكثر من عقد معركة الاستقلالية والديمقراطية في إطار الاتحاد العام لطلبة تونس وفي هياكله النقابية المؤقتة بعد انقلاب قربة 1971. وشكّل إضراب التعليم الثانوي في 28 جانفي 1975 لحظة فارقة في تاريخ العلاقة بين الهياكل النقابية القاعدية والقطاعية وقيادة الاتحاد التي سارعت آنذاك برفت أعضاء المكتب الوطني للنقابة العامة من الاتحاد قبل أن تتولّى الوزارة فصلهم من الوظيفة العمومية. وقد شهدت معركة الديمقراطية النقابية صولات وجولات منذ ذلك التاريخ دوّن جزءً منها الراحل الطاهر الهمامي في كرّاسه “دفاعا عن الديمقراطية النقابية” الصادر أواسط الثمانينات والذي أرّخ لبعض المعارك الواقعة آنذاك تحت هذه اليافطة. ويسجّل كتاب جيلاني الهمامي صفحات إضافية في هذا المجال شملت الفترة الممتدّة من مؤتمر سوسة إلى اندلاع الحراك الثوري، والتي تمحورت فيها معركة الديمقراطية النقابية حول إعادة الهيكلة والتي كانت ومازالت تعتبر مطلبا حيويا لمناضلي الاتحاد وهياكله القاعدية. وقد تجسّدت في وقت من الأوقات في النضال من أجل فرض محتوى الفصل العاشر (مؤتمر جربة 2002) ثمّ للتصدي لنيّة التراجع عنه (مؤتمر المنستير 2006). كما اتّخذت المعركة، في أوقات أخرى، شكل التصدّي لحملات التجريد التي شنّتها القيادة النقابية ضدّ مناضلين من الهياكل القاعدية (2007 ـ 2008 خاصة) والتي استهدفت بالخصوص اليسار النقابي الذي خصّه جيلاني الهمامي بفصل خاص ضمن هذا القسم “دفاعا عن اليسار النقابي” (ص 180 ـ 194)، مبرزا أهمّية هذا الرافد داخل الاتحاد والمكاسب التي تحقّقت بفضل النضالات التي خاضها من أجل أن يظلّ الاتحاد مستقلا ديمقراطيا ومناضلا. والملاحظ هنا أنّ معظم فصول هذا القسم هي نصوص كتبها صاحبها في إبّانها ونشر معظمها في منشورات حزب العمّال السرية: جريدة “صوت الشعب” أو مجلة “الشيوعي” أو بعض الكراريس الخاصّة.
ما جدوى المفاوضات الاجتماعية؟
أمّا القسم الثالث فقد خصّصه الكاتب للمفاوضات الاجتماعية. وهي السياسة التي دأب عليها الاتحاد منذ بداية السبعينات في إطار ما يُسمّى بالسياسة التعاقدية والتي لم تتخلّ عنها أيّ من القيادات القديمة/الجديدة للاتحاد. وإن حصل إخلال بها فغالبا ما يكون من الطرف الحكومي، خاصة في فترات التوتّر مع القيادات المتعاقبة على غرار ما حصل غداة الإضراب العام في جانفي 1978 أو إثر الهجوم على الاتحاد وتنصيب ما يُعرف بالشرفاء. وتضمّن هذا القسم أربعة فصول تناولت مسألة المفاوضات الاجتماعية في الفترة اللاّحقة لمؤتمر جربة. وتساءل الكاتب في الفصل الأول عن جدوى مواصلة هذه السياسة التي تهدف بالأساس إلى إقرار تعويض جزئي عن تدهور المقدرة الشرائية للشغالين لا غير، مقابل التزام القيادة النقابية بالسّلم الاجتماعية والتصدّي لكل من يحاول الخروج عن “الصفّ الوطني”. وقد تُرجم هذا الالتزام في الفترة المذكورة بالإجراءات “التأديبية” المتّخذة ضد “المناوئين” مهما كان موقعهم: هياكل قاعدية أو وسطى، بل إنها شملت حتى أعضاء من الهيئة الإدارية للاتحاد. وأبرز في بقية الفصول أنّ هذه المفاوضات تأخذ في غالب الأحيان طابعا عبثيا، إذ هي لا تأخذ بعين الاعتبار المطالب الحقيقية للقواعد وللقطاعات التي لا يتمّ تشريكها أو حتى استشارتها في مجرياتها. بل إنّ السيناريو نفسه يتمّ عرضه بنفس الإخراج الرديء بعد كل ثلاث سنوات: مفاوضات ماراطونية بين وفد الاتحاد ووفد الحكومة لا تصل إلى أيّ نتيجة، لقاء قيادة الاتحاد مع الوزير الأول دون جدوى في انتظار الخلاص الذي لا يأتي إلاّ بعد مقابلة الأمين العام للاتحاد لرئيس الدولة… فيأتي الفرج بإقرار زيادة لا تفي بالحاجة ومتّفق عليها مسبقا.
أزمة النّقابات… الوحدة والتّعدّديّة النّقابيّة
القسم الرابع من الكتاب تضمّن ثمانية فصول تعلّق كلّ منها بمظهر من مظاهر الأزمة التي عاشها الاتحاد خاصة على مستوى قيادته منذ مطلع الألفية الجديدة أي منذ إقدام أغلبية المكتب التنفيذي على عزل اسماعيل السحباني الأمين العام المنتخب في ما سُمّي بعملية التّصحيح النقابي، وما تلاه من أحداث مهمّة حتى بعد مؤتمر جربة الذي لم يُعد للقيادة النقابية وئامها وتناغمها، بل إنّ مظاهر “الصراع” بين أعضائها كانت واضحة للعيان وخاصّة لروّاد البطحاء، وخرجت إلى العلن في بعض المناسبات كـ “احتفلات” غرة ماي لسنة 2006 أو عندما هدّد الأمين العام بالاستقالة في شهر سبتمبر من نفس السنة. فنشطت في تلك الفترة أطراف وتيارات نقابية بشكل لا فت، وكانت في معظمها مناوئة للقيادة. فأعيد طرح مسألة التعددية النقابية، بل إنّ بعض النقابيين الملتفّين حول حبيب قيزة حسموا الأمر وأعلنوا عن ميلاد “الجامعة العامّة التونسية للشغل”.
وتناولت بعض الفصول أزمة الاتحاد الجهوي بتونس والانقلاب الذي حصل على مكتبه المنتخب للحفاظ على الوحدة المغشوشة والتوازنات التي تترك للبيروقراطية اليد الطولى على هياكل الاتحاد، خاصة لمّا تكون بحجم هذا الهيكل الذي يُعتبر اللاّعب الرئيسي في جميع المحطات الانتخابية بحكم حجمه. فلا مجال لخروجه عن السيطرة حتّى وإن أدّى الأمر إلى تطويع النظام الداخلي ليستجيب إلى رغبات الشق المتنفّذ في القيادة، في حين تناولت أخرى سمات تطوّر العمل النقابي حتى على المستوى العالمي في ظلّ عولمة الليبيرالية المتوحشة وانعكاساتها الحاصلة والممكنة على الحركة النقابية المحلية.
الاتّحاد وقضايا وطنيّة أخرى
أمّا القسم الأخير، فقد خصّصه الكاتب لتقييم موقف الاتحاد من بعض القضايا ذات البعد الوطني، قبل الثورة وبعدها، وما طرحته وتطرحه من تباينات في صفوف النقابيّين لما فيه من تأرجح بين الحرص على استقلالية المنظمة النقابية ومن تبرير لاصطفافها المجاني وراء السلطة والحزب الحاكم. فبقدر ما ترفع القيادة النقابية عصا الاستقلالية في وجه النقابيين الديمقراطيين الذين تحوم حولهم “شبهة الانتماء” إلى التنظيمات اليسارية والتي “تهدّد الاتحاد في استقلاليته” حسب زعمهم، بقدر ما رأيناها ترتمي في أحضان النظام وتلبّي جميع رغباته كلّما كشّر هذا الأخير عن أنيابه وأحيانا حتى دون ذلك. وقد سجّل الكاتب المواقف الإيجابية التي اتخذها الاتحاد حيال بعض القضايا الوطنية منها وقوفه في صفّ الرافضين لدعوة شارون لحضور قمّة المعلومات سنة 2005، أو رفضه الالتحاق بمجلس المستشارين بالصيغة التي حدّدتها السلطة (رغم أنّ ذلك لم يمنع بعض قياديّيه من القبول بها، ولم ينجرّ عن ذلك أيّ إجراء في حقهم)، وهي مواقف تبدو استثنائية مقارنة بخطّ المهادنة التي دأبت عليه قيادة الاتحاد والتي لم ينجح استبعاد السحباني في تغييرها، بل لعلّ خلفه قد برع أكثر في تمرير مثل تلك المواقف بشتّى الطرق مثلما حصل في الهيئة الإدارية الوطنية المنعقدة في 31 أوت 2004 لتمرير موقف ترشيح بن علي لمدّة رئاسية جديدة رغم أنّ الموقف العام داخل الاتحاد كان ضدّ ذلك.
وتطرّقت بعض فصول هذا القسم إلى التعثّرات التي صاحبت فكرة إنشاء “المنتدى الاجتماعي التونسي” والتي تتحمّل قيادة الاتحاد قسطا وافرا من المسؤولية فيها. أمّا الفصول الأخيرة فقد خصّصت لفترة ما بعد الثورة والدور الذي لعبه الاتحاد في بعض القضايا المصيرية، خاصة إرساء الحوار الوطني الذي ساهم في تخليص البلاد من حكم “الترويكا”.
وفي الختام، نقول إنّ هذا الكتاب الذي مزج بين التحليل الموضوعي المرتكز على الأحداث والوقائع والشهادة التاريخية لمناضل من داخل الاتحاد، إذ هو انتمى إلى الهيئة الإدارية الوطنية في وقت من الأوقات، ولأنّ صاحبه لم يلازم الحياد الزائف في كل ما تناول من أحداث، فإنه قد لا يحظى بإجماع كلّ قرّائه ـ ولا أخال ذلك هدفا من أهداف كاتبه ـ لكنه يطرح بكلّ جرأة ودون مواربة القضايا الكبرى التي شغلت وتشغل الرأي العام النقابي وخاصّة منها قضايا الاستقلالية والديمقراطية الداخلية والنضالية. ويمكن على هذا الأساس أن يشكّل أرضية لنقاش معمّق حول مستقبل الحركة العمّالية والنقابية في تونس المستقبل.