أبرمت تركيا في بداية هذا الأسبوع اتّفاقا يقضي بإعادة العلاقات بينها وبين الكيان الصهيوني بعد انقطاع دام ست سنوات. هذه الخطوة وإن بدت للبعض مفاجئة إلاّ أنها في حقيقة الأمر منتظرة بالنظر إلى طبيعة السياسة الخارجية التركية التي تعتمد على التبعية للقوى العظمى لمواجهة مشاكلها الداخلية وخاصة الملف الكردي والاضطرابات الاجتماعية.
تركيا دائما في الحلف الامبريالي الرّجعي
المتابع الدقيق للسياسة الخارجية التركية يدرك تمام الإدراك أنّ تركيا لا يمكنها التّخلّي عن علاقاتها بالقوى الامبريالية وخاصة بالحلف الأطلسي والكيان الصهيوني الذي يمثّل ذراع الامبريالية في المنطقة.
وتعتبر تركيا حليفا استراتيجيا للقوى الامبريالية وقاعدة دائمة للقواعد العسكرية التي تنطلق منها الهجمات على الدول المجاورة. وقد لعبت دورا محوريا في العدوان على العراق وفتحت أراضيها ومجالها الجوي لتشديد الحصار الظالم على هذا البلد بعد اجتياح الكويت في مطلع تسعينات القرن الماضي. واستعمل التحالف الدولي أرض تركيا ومجالها الجوي لفرض الحظر الجوي والحصار الاقتصادي على العراق الذي استمرّ لأكثر من 13 سنة وانتهى باحتلال هذا البلد وتدميره.
كما لعبت تركيا دور الخادم للمشاريع الامبريالية والصهيونية في المنطقة وساهمت بشكل فعّال في ضرب المقاومة الفلسطينية واللبنانية وتضييق الخناق عليها ومحاصرة الدول المتهمة بدعم هذه المقاومة مثل سوريا وإيران، وكانت تركيا دائما ضمن الحلف الامبريالي الصهيوني الرجعي العربي الذي تقوده واشنطن على المستوى العالمي والسعودية على المستوى الإقليمي والعربي.
علاقات تركيا بالكيان الصّهيوني استراتيجيّة وقديمة
على مدى سنوات كانت تركيا أكثر حلفاء الكيان الصهيوني في المنطقة، حيث استندت العلاقة بين الجانبين إلى مبدأ “حلف الأطراف”، الذي أرسى قواعده رئيس الوزراء الصهيوني الأول دفيد بن غوريون. لقد استغلّ الكيان الصهيوني التوتر في العلاقة التركية العربية، ونجح في بناء علاقات ذات طابع استراتيجي، عوّضها عن العزلة الإقليمية الناجمة بشكل أساسي عن حالة الصراع الدائر مع الدول العربية. لقد كان النظام التركي مدركا أنّ تعزيز العلاقة مع الامبريالية العالمية وتحديدا مع الولايات المتحدة يستدعي توثيق العلاقة مع الكيان الصهيوني. وبفضل هذه العلاقة، تعاظم التعاون الاستخباري والأمني بين الجانبين، وظلّت تركيا أكبر مستورد للمنتجات العسكرية الصهيونية، حيث بلغ متوسط حجم ما تستورده أنقرة من السلاح سنويا مليار دولار سنويا، في حين تحوّلت أجواء تركيا ومياهها الإقليمية إلى ساحات تدريب لسلاحي الجو والبحرية لدولة “إسرائيل”. وقد وصل الأمر إلى حدّ أنّ تركيا كانت على استعداد لبيع المياه لها. وحتى عندما وصل أردوغان إلى الحكم، فإنه حرص على الحفاظ على العلاقة مع “إسرائيل” ووقـّع معها على العديد من الصفقات في المجال الأمني والاقتصادي.
من هنا يمكن القول إنّ توتّر العلاقة بين الكيان الصهيوني وبين تركيا إثر الهجوم على سفينة الحرية قبل ست سنوات هو عبارة عن سحابة صيف عابرة سرعان ما انجلت لتعود العلاقات بأكثر قوة، حتى أنّ بعض الملاحظين يؤكّدون أنّ العلاقات بين البلدين لم تعرف تطوّرا كما عرفته في عهد الحكومة الإسلامية علما وأنّ هذه العلاقات لم تنقطع في حقيقة الأمر حتى خلال هذا التوتر الأخير وتواصلت بشكل آخر من خلال الدعم المتبادل غير المعلن والتوافق في مجمل القضايا المشتركة.
الاستقواء بالأجنبي لقمع أبناء البلد
من الثّوابت التي تميّز السياسة الخارجية التركية هي استقوائها بالأجنبي لمواجهة مشاكلها الداخلية المتصاعدة وخاصة الملف الكردي والاضطرابات الاجتماعية والتهديدات الإرهابية التي تنفّذها مجموعات إسلامية أو يسارية متطرفة.
وكلما تصاعدت المشاكل الداخلية للنظام التركي توطّدت بالمقابل العلاقات بين هذا النظام وبين القوى الامبريالية والكيان الصهيوني والقوى الإقليمية التابعة لهما وخاصة السعودية ومصر.
والاتّفاق الأخير جاء في ظرف تواجه فيه تركيا تصاعدا للعمليات العسكرية التي ينفّذها حزب العمّال الكردستاني في المناطق المحاذية لحدودها مع سوريا والعراق. كما تصاعدت أيضا العمليات الإرهابية التي تنفّذها مجموعات متطرّفة إسلامية أو يسارية دون أن ننسى ما خلّفه تدهور العلاقات مع روسيا من عزلة للنظام التركي الذي وجد نفسه في عزلة خارجية في وقت بدأ غريمه النظام السوري يفكّ عزلته ويفرض نفسه على واشنطن والاتحاد الأوروبي مستفيدا من علاقاته القوية مع روسيا. وقد تزامن تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني مع عودة العلاقات مع روسيا باعتماد الاعتذار كآلية لعودة هذه العلاقات.
القضيّة الفلسطينيّة هي الخاسر الأكبر
من البديهي أنّ تطبيع العلاقات بين النظام التركي وبين الكيان الصهيوني ستكون على حساب القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني. كما ستؤثّر عودة العلاقات بين البلدين على الوضع في سوريا ولبنان واليمن وسيتعزّز الحلف الامبريالي الصهيوني الرجعي بقيادة واشنطن لمواجهة الحلف الروسي الإيراني السوري بما يجعل الكيان الصهيوني أكثر قوة ويزيد من قمعه للمقاومة الفلسطينية ويمضي قُدما في مصادرة حقوق الشعب الفلسطيني. ورغم التطمينات التي وجّهها النظام التركي إلى السلطة الفلسطينية حول ضرورة دعم القضية الفلسطينية والادّعاء بأنّ الاتفاق مع الكيان الصهيوني يشمل تخفيف الحصار ودفع عملية السلام، إلاّ أنّ الوقائع على الأرض والترتيبات التي سبقت الاتفاق وما تبعها من إجراءات تصبّ كلّها في اتجاه قمع المقاومة الفلسطينية وتضييق الخناق عليها.
وكانت مصادر تركية و”إسرائيلية” أشارت منذ العام الماضي إلى أنّ اتفاق تطبيع العلاقات بين أنقرة وتل أبيب ينصّ على طرد القيادي في حركة حماس صالح العاروري من تركيا ووقف “النشاط الإرهابي” لحركة حماس، بحسب نص الاتفاق.
ولا يمكن للكيان الصهيوني أن يعتذر لتركيا على ضربها لأسطول الحرية دون أن يتحصل على ضمانات مؤكّدة من تركيا بخصوص طرد قيادات المقاومة الفلسطينية وتقييد نشاط المنظمات الداعمة للقضية الفلسطينية.
إنّ التطوّرات في الشّأن السّوري، وخاصة نجاح النظام السوري بقيادة بشار الأسد في قلب موازين القوى نسبيا لصالحه في عدّة جبهات ومواصلة موسكو دعمها القوي لهذا النظام جعل تركيا تراجع حساباتها وتقدّم تنازلات للكيان الصهيوني ولروسيا في محاولة منها للخروج من عزلتها والتخفيف من حدّة المشاكل الداخلية التي تعاني منها. والتقت مصالح تركيا مع مصالح الكيان الصهيوني في التصدي لنجاحات النظام السوري وحشد الدعم الدولي لمواجهته وإقناع روسيا بالتخلي عنه. لكن وبالنظر إلى التطورات على المستويين الدولي والإقليمي في علاقة بمناطق التوتر في المنطقة العربية الإسلامية واختلال موازين القوى نسبيا لصالح الحلف الروسي الإيراني السوري، فإنّ تركيا ستجد نفسها مجبرة على القبول بالأمر الواقع وتقديم مزيد من التنازلات لروسيا مع الحفاظ على علاقات جيدة مع الغرب الذي سيقبل في النهاية بالتعامل مع النظام السوري واعتباره طرفا رئيسيا في أي تسوية مقبلة.
عبد الجبّار المدّوري