شريف الخرايفي
منذ أواسط فيفري 2016 إلى اليوم، هي مدّة اعتصام في رصيد مجموعة من شباب ولاية القصرين أمام وزارة التشغيل بالعاصمة، بعد أن قدّم البعض منهم إليها سيرا على الأقدام، غداة انفجار الأوضاع بالجهة أواسط جانفي 2016 مطالبة بالتنمية والتشغيل…
ستّة أشهر اعتصام: ستّة أشهر من مزيد التّجاهل:
طيلة المدّة التي قضّاها الشباب المعتصم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، تحت البرد ثمّ الحرّ، تصميما على افتكاك حقّهم المشروع في الحياة، بشكل متحضّر وسلمي، لم يجدوا فيها غير التسويف والمماطلة واللاّمبالاة من قبل كلّ المسؤولين، بل إنّ وزير التشغيل، السيد زياد العذاري، يلج مكتبه في العادة من باب خلفي حتّى لا يواجه “وجوها كالحة”، أعياها البحث والانتظار والحلم بما قد يعوّض لهم ولذويهم عن سنوات التهميش والحرمان.
وفي المرات القليلة التي التقى بهم، كانت إجاباته لهم مستفزّة وتقطر “حقرة” وامتعاضا، حتّى أنّ أحد الشباب، لطفي جابلي، أقدم منذ يومين على محاولة الانتحار، بسبب هذا السلوك، وهو إلى حدّ الساعة تحت العناية المركزة في أحد المستشفيات.
“شوّهتوصورةتونس”:
هذه العبارة لم تصدر عن مواطن عادي، بل جادت بها قريحة وزير التشغيل منذ بضعة أيّام وهو بصدد الالتحاق بمكتبه، تزامنا مع وجود تظاهرة كبرى (الأغلب دبلوماسية) بالنزل المقابل للوزارة، نزل المشتل، اعتقادا منه، أنّ الوفود الأجانب ربما “ستحتقر بلادنا” بسبب الاعتصام المقابل، والحقيقة أنّ السيد الوزير كان يودّ القول “لقد عريتم فشلي، وأظهرتم للأجانب إلى أيّ مستوى بلغ عجز وزارته في حلّ المشاكل الحارقة، المطالب الجدّية التي رفعتها الثورة وسالت من أجلها دماء زكيّة”…
ربما كان يظن السيد الوزير أنّ مظهر الشباب وهم يفترشون الأرض سينفّر المستثمرين الأجانب ويحرم تونس من النهوض ومن الازدهار؟ أبدا ومطلقا. الاستثمار الحقيقي، الذي نتمنّاه وطال انتظاره، هو ذاك الموجّه للإنتاج وللتنمية، ذاك الذي يحترم ويكرّس حقوق العملة، ومبرم وفق بنود عقود ومعاهدات واتفاقات غير مهينة وغير مذلّة، توفّر إمكانيات الربح للمستثمر وتحمي العامل والبيئة وتضمن الواجب الضريبي لفائدة الدولة… أمّا الاستثمار الذي يدافع عنه السيد الوزير، فهو استثمار المافيات، الذي يسعى فقط إلى الربح الأقصى، فيدوس على حقوق الكادحين ولا يوفّر أي قيمة مضافة في التنمية أو البيئة أو ميزانية الدّولة، هو الاستثمار الذي يمنح عمولات للسماسرة والوسطاء (وفي الغالب هم وزراء وكتّاب دولة ورجال أعمال)، في حين تفتح أمامه كلّ فرص الإفساد والابتزاز والتهرّب الضريبي والتسريح القسري…
هل شوّهوا وزارتك أمام هؤلاء؟ نحن معهم في ذلك…
“ما يزّيش إنكم تثقفتو؟”
تحدّث إلينا المعتصمون عن حادثة أخرى مع وزير التشغيل… وهو المرة الوحيدة ربّما التي قابلهم في مكتبه… “لقد وفّرَت لكم الدّولة فرص التثقّف، والآن بإمكانكم القيام بتكوين في اختصاص مهني أو التفكير في أيّ مشروع خاص بكم أو الانخراط في آلية “فرصتي”(وهي “طلعة” من “طلعات” هذا الوزير، والتي ثبت بالملموس أنه حقنة للتسويف وإهدار المال العام، لا هدف لها غير تأجيل الأزمة).
هكذا تصبح الشهادة الجامعية في عرف السيد الوزير مجرّد دلالة على أنّ صاحبها من “النخبة” ويطلق عليه “مثقف”، ولا يدور بخلده أبدا أنّها تختزن سنين طويلة من الشقاء بالنسبة إلى السواد الأعظم من العائلات التونسيّة، وأنها الأمل الوحيد لغالبيتهم لانتشالهم من الخصاصة والحرمان… بل إنّ الدولة، وهي ليست الحكومة ولا الأحزاب المكونة لها، هي أداة لكلّ التونسيّين في التمتع بخيرات البلاد وثرواتها وفرص الارتقاء الاجتماعي، وبالتالي، من واجب الدولة ضمان تكافئ الفرص في تحصيل العلم وفي العمل.
لا تنتظروا شيئا منهم، فهم عاجزون:
ليس غريبا أن تكون وزارة التشغيل، العنوان الأبرز في فشل الحكومات المتعاقبة، وليس أدلّ على ذلك أنّ مؤشرات البطالة، أرقاما وحتّى استشرافا، تتفاقم وتتعمّق باستمرار. بل إنّ السعي للتعويل على الذات والاستثمار للحساب الخاص يكتنفه كثير من المجازفة بسبب التعقيدات الإدارية البيروقراطية في البداية، ثمّ وأساسا، بسبب مناخ عدم الثقة في الاستقرار الاجتماعي وفي الدّولة عموما، بالنّظر إلى تخبّط الحكومات المتعاقبة في اللهث وراء المواقع وتناحر الأحزاب المكونة لها.
مَنْ مِن التونسيين لم يعرف بعدُ أنّ الفريق الحاكم، في قصر قرطاج وفي القصبة وفي باردو، لا يمثّله ولا يعبّر عن مصالحه، بل لا هاجس لديه بالانهيار الوشيك الذي باتت عليه البلاد، وأنّ ما يقود الجماعة هو فقط ما يقرّره صندوق النقد الدولي ويمليه عليهم، وما عليهم سوى تطبيقه صاغرين “وبكلّ فخر”…
ويبقى النضال ووحدة المناضلين وطول النّفس والاستعداد للتضحية ورصّ صفوف القوى الحيّة، هي الأداة لافتكاك الحقوق، وصحيح أنّ طريق الكرامة متعرّج وشاقّ، ولكنّه هو السبيل الوحيد للعيش بأنفة وباستحقاق… ودون ذلك هو تسوّل وتذلّل وامتهان للكرامة.