هل يمكن أن نتحدّث عن الثّقافة أو إنتاج القيم البديلة دون تصوّر ثقافيّ واضح يجعل الثّقافة الوطنيّة في المحلّ الأوّل؟ هل يَصلُح النّظام الثقافيّ القديم لإنتاج ثقافة جديدة أو لإحداث الفروق بين الماضي والحاضر؟ أين الوعود الثقافيّة؟ أين البنى التّحتيّة في المناطق الدّاخليّة خاصّة؟ ما هي الأنشطة الثّقافية التي تمارس في الدّاخل، في تونس البعيدة عن العاصمة؟ هل تقاوم الثّقافة الإرهاب حقّا أم هو مجرّد شعار يُرفع في هذه المناسبة أو تلك؟! ما وضعيّة الكتاب التّونسيّ اليوم؟ ما منزلة نصوص الكتّاب التّونسيّين في برامج التّعليم والكتب المدرسيّة؟
إنّ هذه الأسئلة وغيرها ممّا يطول ذكره أو طرحه تحتاج – في ما نتصوّر- إلى جواب واحد هو: الإرادة السّياسيّة! (وهي إرادة غائبة ما في ذلك شكّ)..
والثّابت اليوم أن لا وجود لهذه الإرادة السياسيّة للاستثمار في الرأسمال الرّمزيّ الذي هو الثّقافة. فأصوات المثقّفين لا تُسمع رغم أنّها عالية. والميزانيّة المرصودة لوزارة الثّقافة 0’78 % (قيل إنّها ستصبح 1 % في ميزانيّة 2017 ) وحتّى إن رُفّعت، فهل يُعقل أن تكون كذلك في بلد أنجز ثورة ويطمح إلى أن يرى لنفسه موقعا تحت شمس الحريّة وقيم الحداثة والعيش المشترك؟!
يعرف الجميع ما حدث في أيّام قرطاج السّينمائيّة من إخلالات وسوء تصرّف (ما حدث مع الوفد الجزائريّ خاصّة، نموذج يكشف عن استهتار بالثّقافة والمثقّفين!) وقد بدأنا نسمع الآن احتجاجات المسرحيّين على تنظيم أيّام قرطاج المسرحيّة التي ستنطلق يوم 18 نوفمبر. فهل هذه الاحتجاجات المتعدّدة صادرة عن لا شيء أو عن عمى فنّي؟ وهل ما وقع للوفد الجزائريّ يدخل ضمن خانة سوء التّفاهم؟ وهل بعض ما وقع في صفاقس عاصمة ثقافيّة يعتبر سوء تنظيم فقط؟
وحتّى لا يقال لنا إنّ الكلام ملقًى على عواهنه وأن لا دليل على ما تقولون، يكفي أن نشير إلى أمر واحد يعيشه المثقّفون ويعرفونه جميعا حتّى ندرك حجم الهوان الذي يلحق المثقّف، ويُطلب منه في المقابل أن ينتج القيم البديلة وأن يُضحّي لأنّ الثّقافة هي (القليّب/ بثلاث نقاط فوق القاف) وأعني بهذا الأمر هو أنّ المثقّف عندما يقدّم محاضرة أو يلقي قصيدة في أيّ مهرجان ثقافيّ أو ندوة تشرف عليها أو تساهم فيها وزارة الثّقافة لا يتسلّم مستحقّاته (وهي لا تتجاوز 150 دينارا في أقصى الحالات) إلاّ عبر سلسلة من التّعقيدات الإداريّة (البلديّة ثمّ القباضة الماليّة ثمّ التّحويل البنكيّ) وتفرض عليه ضريبة 5 %، (وفي قانون الماليّة الجديد اقترحت 18 %) في حين أنّ التّحالفات الحاكمة وأغلبيّتها في مجلس نوّاب الشّعب رفضت ضريبة 1 % على الثّروات الكبرى، كما أنّها ترفض أيّ ضريبة تصاعديّة على أصحاب المليارات.
إنّ الواقع الثقافيّ اليوم يعاني من محن متعدّدة، منها غياب البرنامج الثّقافيّ الوطنيّ الذي يحدّد لنفسه أهدافا واضحة تتناغم وطموحات المجتمع الذي اكتوى بنار الإرهاب والاغتيالات، والسّاعي إلى مقاومة هذه الآفة بنشر قيم الحداثة والعيش المشترك وحريّة التّعبير والرّأي والعقيدة ونبذ العنف.
ومن تلك المحن كذلك الاستهانة بالمثقّفين واعتبارهم غير منتجين، والحال أنّ المثقّف هو الرّأسمال الرّمزيّ الذي يُحتاج إليه في الدّفاع عن القيم الإنسانيّة النبيلة واستشراف المستقبل ووضع الخطط والاستراتيجيّات الوطنيّة. وربّما نحن اليوم في حاجة أكثر إلى المثقّفين في مختلف الاختصاصات حتّى لا يُباع الوطن أو يُرهن لحساب الرّأسمال المتوحّش والرّأسمال الأجنبّي فتتعمّق التبّعيّة أكثر.
وربّما ازداد الوضع سوءا بالتّوجّه إلى خوصصة كلّ ما هو ثقافيّ (النّدوات والمهرجانات مثلا)، فكلّ خوصصة لن تجلب إلاّ المزيد من طمع رأسمال في الرّبح غير المشروع والإثراء على حساب المثقّفين. ولنا في قطاع النّشر شاهد على ذلك. وكلّ من قدّم كتابا للنّشر في تونس يعرف حجم المعاناة التي يلقاها وحجم الخسارة التي تنتظره. وحتّى بعد تحرير القطاع ظاهريّا ورفع الدّولة يدها عليه، لم يسلم النّاشرون من سلطانها ومن ممارسة التّمييز بحقّهم. فبعضهم له مكانة خاصّة لدى بعض هياكلها (لجنة الشّراءات وما أدراك ما الشّراءات) وبعضهم أو قل أغلبهم يتمّ تجاهلهم، فيضطرّون إلى مغادرة القطاع بعد أن يكونوا قد راكموا بذمّتهم ديونا لن يقدروا على تسديدها.
إنّ التّفكير في الحلول رهين إرادة سياسيّة وطنيّة تراعي مصلحة الشّعب وتضع مصلحة الوطن فوق اعتبارات الرّبح.
عمر حفيّظ: كاتب وناقد
جريدة صوت الشعب: العدد 220