لا حديث في الآونة الأخيرة في وسائل الإعلام العالمية بشتى أصنافها إلاّ على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي أفرزت، خلافا لجميع التوقعات، صعود المرشح الجمهوري دونالد ترامب. ولن نتناول في هذه الورقة جميع مظاهر هذه الانتخابات بل سنركّز على استقراء المتغيّرات الممكنة في السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية “الجديدة”. فهل يحقّ لنا أن نتصوّر تغييرا فعليا في هذه السياسة؟ وفي أيّ اتجاه يمكن أن يحصل ذلك؟
لقد حرص الرئيس المنتخب خلال حملته الانتخابية الظهور بمظهر المختلف جوهريا مع سلفه ومع منافسته لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية هيلاري كلينتون وهما من الحزب الديمقراطي. لكن المتتبّع للسياسات الخارجية الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لا يلاحظ تغييرا جوهريا في طبيعتها العدوانية والتوسعية رغم تداول الديمقراطيين والجمهوريين على سدة الحكم بشكل شبه منتظم ومتساوٍ (ستة رؤساء من الحزب الديمقراطي ومثلهم من الحزب الجمهوري منذ 1945). وإذا ما خاضت أمريكا حربي الخليج الأولى والثانية تحت حكم الجمهوريّين (جورج بوش الأب، وجورج بوش الابن)، فإننا لم نر خليفيهما من الديمقراطيين (بيل كلينتون بالنسبة إلى الأوّل وباراك أوباما بالنسبة إلى الثاني) يسلكان سياسة خارجية أقلّ عدوانية أو مختلفة في جوهرها عن سياستهما.
وقد أشار عالم اللسانيات والمفكر اليساري الأمريكي نعوم تشومسكي في تعليقه على نتائج الانتخابات الأخيرة بأنّ الولايات المتحدة الأمريكية لا يحكمها منذ عقود خلت ـ كما تروّج لذلك آلة الدعاية الجهنمية ـ حزبان بل حزب واحد ذو وجهين أو واجهتين، “ديمقراطية” و”جمهورية”، هو “حزب رجال الأعمال”. فانحدرت أمريكا بذلك من الديمقراطية إلى “البلوتقراطية” أي حكم طبقة الأثرياء، حيث لا تحصل الغالبية العظمى من الشعب الأمريكي على أدنى تمثيل. فالأحزاب التي تحصل على المرتبة الثالثة لا وزن لها باعتبار النظام التمثيلي الموروث على النموذج البريطاني والذي يحصر اللعبة السياسية بين الحزبين الأوّلين فقط ويهمّش البقية الباقية، وهو ما تحاول بعض الأطراف تمريره في المشهد السياسي الحالي عندنا للإجهاز نهائيا على المكاسب الضئيلة التي تحقّقت في خضمّ المسار الثوري.
وأوضح نعوم تشومسكي كيف تحوّلت القاعدة الانتخابية للديمقراطيين والمتكوّنة أساسا من الطبقة الوسطى أو “أصحاب الياقات البيضاء” رويدا رويدا للتصويت لصالح الجمهوريّين بعدما أنهكتها وفقّرتها السياسات النيوليبرالية الجديدة التي عرفت انطلاقتها الحقيقية في ظل حكم “الديمقراطي” جدّا رونالد ريغن. وهي طبقة أصبحت تشعر بالمرارة والتهميش وبتخلّي الديمقراطيين عليها، حتى أنّها أصبحت تحت طائلة وتأثير الشعارات الشعبوية والعنصرية كالتي بنى عليها دونالد ترامب حملته الانتخابية لهذه السنة.
فما الذي ننتظره ـ والحالة كما ذكرنا ـ من تغيّرات في السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية الجديدة؟
إنّ ما جاء على لسان ترامب في حملته الانتخابية لا يبعث البتّة على الاطمئنان. فهو لم يتطرّق البتّة إلى مصير القوات العدوانية الأمريكية المنتشرة عبر العالم والتي يقدّرها المراقبون بـ150 ألف جندي يرابطون في القواعد العسكرية القارّة منها والتي تستضيفها البلدان “الصديقة”، أو المتنقّلة عبر البحار والمحيطات لتكون قريبة من جميع بؤر التوتر الساخنة. ولم يقدّم بدائل لسياسات سلفه باتّجاه تحسين العلاقات الدولية من أجل كبح جماح التوجه نحو الحرب وإحلال السلم، بل إنّ خطابه جاء مخالفا تماما لذلك. إذ هو وعد بالتراجع على الاتّفاق النووي المبرم مع إيران، وما قد ينجرّ عن ذلك من قلاقل إضافية في منطقة الخليج المشتعلة أصلا، كما وعد بمزيد دعم “إسرائيل” ماديا ومعنويا كعزمه على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة والاعتراف بها عمليا كعاصمة للكيان الصهيوني الذي يتقاسم معه حسب قوله “الكثير من القيم المشتركة، مثل حرية التعبير وحرية العبادة، وخلق فرص لكل المواطنين من أجل تحقيق أحلامهم”، مضيفا أنّ “”إسرائيل” هي الديمقراطية الحقيقية الوحيدة والمدافعة عن حقوق الإنسان في الشرق الأوسط، ومنارة أمل للعديد من الأشخاص”. فإذا كانت هذه هي وعوده بالنسبة إلى هذين الملفين الحارقين، فهل نصدّق ادّعاءه العزم على محاربة الإرهاب؟
مرتضى العبيدي