تُعتبر مدينة حلب قلب سوريا الصناعي، حيث تأوي نسيجا اقتصاديا متنوعا وكمًّا هائلا من الأنشطة المختلفة، وهي العاصمة الثانية بعد دمشق وتتميز بالكثافة السكانية والتعدد الديني والعرقي والثقافي.
حلب، مدينة استراتيجية شكّلت منذ اندلاع الأزمة السورية قلب رحا المعركة.فنظام أردوغان استهدفها قصد التأثير في تركيبتها السكانية من أجل أن تكون موالية سياسيا ومفتوحة اقتصاديا على العمق التركي.والمجموعات المسلّحة المسنودة من طرف القوى الغربية والإقليمية خططت على الدوام للسيطرة عليها عسكريا واستعمالها كورقة ضغط لإسقاط النظام السوري أو فرض تقسيم البلاد إلى طوائف و”كانطونات” تخدم الأهداف الاستراتيجية للكيان الصهيوني الغاصب في إطار ما أُطلِق عليه الأمريكيون “مشروع الشرق الأوسط الجديد”.
مدينة حلب (حلب الشرقية) تسيطر عليها جبهة النصرة الموالية لتنظيم القاعدة الإرهابي إلى جانب مجموعات أخرى ظلامية وتكفيرية (أحرار الشام – جماعة نور الدين الزنكي – وغيرها من المجموعات المسلحة السورية الرافضة لنظام الأسد) يصنفها الغرب على أنها قوى معتدلة لكنها في واقع الأمر قوى إرهابية تمارس التقتيل على الهوية (قطع رأس طفل فلسطيني عبّر عن ولائه لبشار الأسد) وتستعمل السكان كدروع بشرية وتمنع عنهم المواد الغذائية وتطلق الصواريخ وقذائف الهاون على أحياء حلب الغربية الآهلة بالمدنيين مخلّفة مئات القتلى.
لقد نظمت المجاميع التكفيرية بدعم أطلسي تركي هجمات عنيفة على المدينة مستعملة أحدث أنواع الأسلحة بما في ذلك المحرّمة دوليا،إلى جانب المفخّخات والأحزمة الناسفة…بهدف السيطرة عليها ودحر الجيش السوري وحلفائه بعيدا عن المدينة.لكن استبسال هؤلاء المدعومين جويّا من الطيران السوري والروسي مكّنهم من الصمود واستيعاب الهجوم في مرحلة أولى ثم قتل وطرد المسلحين.
القوى الغربيّة ترفع شعار حماية المدنيّين
أمام الانتصارات المتتالية للجيش السوري الذي شرع في تضييق الخناق على المسلحين في أحياء حلب الشرقية رفع الأمريكيون وحلفاؤهم شعار منع استهداف المدنيين، وطالبوا بإيقاف العمليات العسكرية وإدخال المساعدات للمدنيين. وقد تعهّد المبعوث الأممي ديمستورا بتأمين الخروج الآمن لعسكريّي جبهة النصرة رغم أنّ الجبهة المذكورة مصنفة إرهابية من طرف الأمم المتحدة، وضغط الأتراك بالتوغّل داخل الشمال السوري بتعلة”محاربة داعش”، وهدد الأمريكيون بالمرور إلى الخطة ب بعد أن ساعدوا “الدواعش” على تضييق الخناق على الجيش السوري المرابط بمطار دير الزور باستهدافه عبر الجو وقتل العشرات من جنوده. واتّهموا الروس باستهداف قوافل المساعدات والاعتداء على مؤسسات تربوية وقتل عشرات التلاميذ والمدرّسين بهدف إرباكهم…
السعوديون من جهتهم عبّروا عن استعدادهم لتوفير قوات برية لـ”طرد داعش” من الأراضي السورية (اِقرا مساعدة “داعش” والمسلحين على البقاء في سوريا).الصهاينة دخلوا على خطّ المعركة باستهداف الجيش السوري وتقديم العون الاستخباراتي واللوجستي والصحي للمجموعات الإرهابية تحت عنوان استبعاد خطر إرهابيّي حزب الله عن الجولان المحتل.
كلّ الأطراف تستعمل ورقة “مقاومة الإرهاب وضرب “داعش”” لفرض أمر واقع على النظام السوري وتقسيم البلاد وإسقاط النظام.
النظام وحلفاؤه يعكسون الهجوم
لقد فرضت القوى الإقليمية والغربية بقيادة الولايات المتحدة على الجيش السوري وحلفائه تأجيل معركة حلب الشرقية. فانطلق في هجوم معاكس شمالا وغربا وجنوبا ليحرّر خلال أيام العديد من المناطق والأحياء ( ضاحية الأسد – مجموعة 1070 شقة – معامل الإسمنت –الكليات والمدرسة الحربية…)أوّلا لاستبعاد استهداف أحياء حلب الغربية من طرف المسلحين، وثانيا لقطع إمكانية التواصل مع المسلحين في أحياء حلب الشرقية وعزلهم ودفعهم نحو الاستسلام.
هزيمة المجاميع المسلحة كانت سريعة في أرياف حلب. والجيش السوري وحلفاؤه أصبحوا في طريق مفتوح لدحر الإرهابيين وحصرهم في مدينة إدلب، معقلهم الرئيسي، قبل المرور إلى معركة حلب الشرقية التي ستكون نتائجها محدّدة في مآل الأزمة السورية برمّتها.
تحرير مدينة حلب بالكامل معناه هزم المجاميع التكفيرية على اختلاف مشاربها وكسر حسابات القوى الإقليمية والغربية المتآمرة على سوريا. إنه الخطوة الضرورية على طريق دحر الإرهاب والحفاظ على وحدة سوريا.
أيّ دور لنتائج الانتخابات الأمريكيّة؟
في الحقيقة لا يمكن انتظار تغييرات جوهرية في السياسة الخارجية الأمريكية بعد فوز الجمهوري دونالد ترامب رغم انتصار الجمهوريين الساحق في انتخابات الكونغرس والشيوخ.فالحزبان الديمقراطي والجمهوري لا يختلفان في الانحياز للكيان الصهيوني على حساب القضية الفلسطينية، باستثناء بعض التفاصيل والمسائل الجزئية، وهما لا يختلفان أيضا في إرادة الهيمنة على الشعوب والأمم واستغلال مقدّراتها وتوفير المناخات الملائمة للاستثمار الخارجي بشروط مناسبة وغزو الأسواق الخارجية وتحقيق الأرباح…
لكن فشل سياسات أوباما الخارجية وخطر اتساع رقعة الحرب في سوريا والعراق وإمكانية تطوّرها إلى حرب عالمية ثالثة وتفشّي الخطر الإرهابي الذي أصبح يهدّد صانعيه ومموّليه شرقا وغربا دون استثناء قد تدفع البيت الأبيض في ظل حكم ترامبإلى البحث عن تفاهمات مع الروس للتركيز على ملف القضاء على الإرهاب أولا وحلّ الأزمات السورية والعراقية واليمنية والأوكرانية وغيرها بطرق سلمية عبر اعتماد التفاوض وبما يحفظ مصالح القوّتين الأعظم ثانيا وذلك في إطار إعادة اقتسام مناطق النفوذ في العالم وفق حالة موازين القوى.
إنّ تحرير مدينة حلب هو الخطوة الأولى على طريق معالجة الأزمة السورية برمّتها، والانتصارعلى الإرهاب في سوريا والعراق هو الشرط الضروري للقضاء عليه في باقي أنحاء العالم.
المسألة ليست ميكانيكية طبعا وهناك مسائل أخرى مهمّة لابدّ من معالجتها لسدّ الباب أمام تنامي الظاهرة الإرهابية وانتشارها وأهمّها التنمية والتشغيل والقضاء على الفقر والتهميش ومحاصرة الفساد والاستبداد وإطلاق الحريات السياسية في الدول التابعة حتى لا تتوفر الحاضنة الاجتماعية للمجاميع الإرهابية.
فهل نحن في مسار حقيقي وجدّي لتضييق الخناق على الإرهاب التكفيري بدءًبسوريا والعراق في انتظار البقية؟
علي البعزاوي